من حرب الآخرين إلى نزاعاتهم

TT

لا يسع المتتبع للاصطفافات السياسية والطائفية في لبنان، والمتأججة باطراد على خلفية أحداث سوريا، أن لا يلاحظ كيف بدأت تتفاعل بحدة على مستوى الشارع اللبناني مهددة بإعادة إحياء الانقسامات الداخلية الراقدة، منذ عام 1990، تحت رماد حربهم الأهلية العبثية.

الشارع اللبناني، والأصح الشارعان اللبنانيان يغليان. وكأن مآسي الأحداث السورية لا تكفي لتأجيج حرارتهما، تأتي التعليقات الإعلامية المنحازة لهذه الجهة أو تلك لتزيدها سخونة.

ولكن السؤال يبقى: هل تجاوزت هذه الاصطفافات، فعلا، قدرة الطبقة السياسية على احتوائها أم أن جهات - داخلية وخارجية - تنفخ في جمرها على أمل أن تنتهي الأزمة في سوريا.. لتبدأ في لبنان؟!

بعد أن عانى اللبنانيون على مدى 15 عاما (1975 - 1990) مما اكتشفوا – متأخرين - أنه كان «حرب الآخرين» على أرضهم، هل يكررون التاريخ ليعيشوا، هذه المرة، «نزاعات الآخرين» على أرضهم؟

عقدة لبنان المزمنة أنه كان على مر التاريخ - ولا يزال وللأسف - ساحة مفتوحة على كل نزاعات الشرق الأوسط وتداعياتها الإقليمية والدولية.

لا جدال في استحالة عزل لبنان عن محيطه العربي، إلا أن المؤسف أن تصبح انقسامات اللبنانيين الداخلية التعبير الأول لرابطهم العربي، بينما يبقى لبنان الرسمي غائبا عن الأزمة السورية، وفي الواقع مغيبا بحجة «النأي» عن نزاع يتحول باطراد إلى مأساة إنسانية مفجعة.

ومع التسليم بحق اللبنانيين في التعاطف مع معاناة أشقائهم السوريين، وحتى في مدهم بالمساعدات الإنسانية والطبية التي يحتاجونها، يجب أن لا يغيب عن العاملين على تحريك الشارع اللبناني أن لبنان بلد يعاني من فقدان المناعة «القومية»، طالما أن ولاء «شعوبه» لمذاهبهم يتقدم ولاءهم لوطنهم، وطالما ظل التزام زعمائهم (أو معظمهم على الأقل) بالقضايا العامة يحدده مصدر تمويلهم أكثر من قناعاتهم الوطنية.. بينما مبادئ معظم أحزاب لبنان لا تخرج عن تجربة تنظيرية في التورية السياسية تتوخى تغطية المصالح الطائفية التي تمثلها.

على ضوء هذه الخلفية يبقى الاحتمال الوارد أبدا في لبنان تحول ما كان قد بدأ تيارا «سياسيا» أو «عقائديا» إلى حالة طائفية يستغلها الآخرون. وفي ظل الاحتقان السياسي الطاغي على لبنان حاليا لم يعد مستبعدا أن يتحوّل إلى نزاع مذهبي لن تقتصر تداعياته على لبنان فحسب. ولأن التطرف يولد تطرفا موازيا، تماما كما يستسقي الدم بالدم، بات الإمساك بمزاج الشارع اللبناني ومحركيه أهم، اليوم، من أي اعتبار آخر في بلد مدجج بالسلاح «غير الشرعي»، كائنة ما كانت مبرراته.

من هنا تبرز أهمية الدعوة إلى ارتداد اللبنانيين اليوم إلى لبنانيتهم، ليس بالمعنى القومي أو الشوفيني للكلمة، بل بالمعنى السياسي المجازي الذي يفرض تقديم مصلحة بيئتهم الاجتماعية على انقساماتهم «العربية».

«لبنان أولا» يجب أن يكون الشعار الواقعي لهذه المرحلة الدقيقة التي يعيشها الشارع اللبناني.. «لبنان أولا» بمعنى أن تدمير لبنان (بعد تدمير سوريا ومن قبلها العراق) لا يصب في مصلحة لبنان ولا في مصلحة سوريا ولا في مصلحة الحضور العربي في المنطقة.

ورفع شعار «لبنان أولا» اليوم من شأنه المحافظة على التجربة الديمقراطية في لبنان، فهي، على هشاشتها، مكسب لدول «الربيع العربي» الناشئة ودعامة معنوية لمستقبلها.

باختصار، تجنيب الشارع اللبناني تداعيات الأحداث السورية، ومحافظة اللبنانيين على استقرارهم الداخلي، وعلى سلمهم الأهلي، على الرغم من تباين مواقفهم الشخصية من الثورة السورية، مناسبة نادرة تتاح لهم اليوم لتأكيد بلوغهم حالة نضج سياسي يفترض أن يكونوا قد استحقوه «بعرقهم ودمائهم» بعد سنوات حربهم الأهلية الطويلة.