البطاركة والدين والأخلاق والنظام السوري

TT

منذ اللحظة الأولى للثورة السورية اتخذ بطاركة الأرثوذكس والكاثوليك والموارنة مواقف ضدها وضد الشعب السوري الثائر، وذكروا سببين لذلك: التخوف على المسيحيين من التطرف الإسلامي، والغرام بالرئيس بشار الأسد المستنير والإنساني وحبيب المؤمنين وحاميهم! وأضاف لحام بطريرك الروم الكاثوليك إلى ذلك: الوقوف مع نظام الممانعة والمقاومة، بينما أضاف بطريرك الموارنة إلى ذلك: ضرورة سلاح حزب الله لتحرير الأرض، ولمنع توطين الفلسطينيين في لبنان! ومنذ ذلك الحين جرت في النهر مياه كثيرة، اضطرت بابا الفاتيكان إلى استنكار القمع وسفك الدم في سوريا، بينما أصر البطاركة السالفو الذكر على امتداح الأسد بمناسبة ودون مناسبة. إلى أن ذكر البطرك الراعي قبل ثلاثة أيام أسبابا راجحة من وجهة نظره للتحزب لنظام الطغيان، والأسباب هي أن ما يسمى بالربيع ليس ربيعا، وإلا فكيف يهجّر مليون مسيحي من العراق؟ وأنه لا مبرر للحملة على النظام السوري الذي أقدم على الإصلاح منذ شهر مارس (آذار) الماضي. وصحيح أن نظام الأسد ديكتاتوري مثل سائر الأنظمة، لكن سائر الدساتير العربية تذكر أن دين الدولة هو الإسلام، في حين أن دستور الأسد يكتفي باعتبار أن دين رئيس الدولة الإسلام!

إن الطريف والمخيف في الوقت نفسه أن هؤلاء الأشاوس ما ذكروا شيئا عن سفك الدم، ولا عن حقوق الإنسان، ولا أبهوا لرعاياهم وعلاقاتهم بالمسلمين ومستقبلهم وسط الأمة العربية. وقالوا عمليا إنهم يفضلون التبعية لحكومات الأقليات العلوية والشيعية، على حكومات الحرية وحقوق الإنسان وحكم القانون والمواطنة التي تعرضها الأكثريات القديمة - الجديدة. ثم إنهم نسبوا تخويف المسيحيين وتهجيرهم إلى المسلمين الذين ما حكمت أكثريتهم منذ خمسين عاما، وإنما تهجّر المسيحيون في ظل حكم الأقليات، ورضوا هم وأجهزتهم - وليس الجمهور المسيحي - بالدونية والذمية والاستتباع لضباط المخابرات في لبنان وسوريا. ثم إنهم – وبدلا من الصمت على الأقل - راحوا يزايدون على أبناء أمتهم بأنه لو زال حزب الأسد، أو ذهب سلاح حزب الله، فإن المقاومة والتحرير سيتعرضان للتهديد والانقضاء!

إن المفروض أن المسيحية الكاثوليكية (والطوائف الشرقية الملتحقة بالفاتيكان) قد دخلت في تراث العلمانية أو فصل الدين عن الدولة بعد صراع عنيف مع البروتستانت والدول الوطنية لنحو ثلاثمائة عام. أما الواقع فهو أن المؤسسات الدينية المشرقية الملتحقة بالفاتيكان أصرّت دائما على الطائفية وعلى التمييز بحجة حاجتها إلى ضمانات من الأكثرية الإسلامية، حتى لا يعاملوا معاملة أهل الذمة. لكن في حين كان المسيحيون في سوريا والعراق في زمن الاستقلال يلعبون أدوارا رئيسية في المجتمع والدولة، عادوا مع حكم الضباط والحزبيين إلى وضع التبعية والذمية. وقد بلغ من جبروت الأنظمة الجديدة عليهم أنها صارت تتدخل في انتخابات وتعيينات المناصب الكنسية ولدى الكاثوليك والأرثوذكس على حد سواء. وفي لبنان بالذات فإن المسيحيين الموارنة عانوا أشد المعاناة في زمن الوصاية السورية على لبنان. أما في لبنان فإن حالة التوازن القوية الواقعة في أصل النظام إنما تعود إلى تسليم المسلمين بها وإصرارهم على العيش المشترك والمناصفة في شتى الظروف، وبعد حرب أهلية طاحنة.

لقد تزعزعت في الحرب أمور كثيرة وكثيرة جدا إلا قضايا العيش المشترك والمناصفة التي حصلت في دستور الطائف (1990) على المزيد من التقوية والتأصيل. وما كان شركاء المسيحيين في هذه القسمة إلا المسلمين الذين يخشاهم البطرك الراعي الآن، ويريد الاستعانة عليهم وعلى الفلسطينيين بسلاح حزب الله! وقد كان البطرك لحام ذو الأصل السوري مطرانا للكاثوليك بالقدس، وكانت مواقفه محمودة ومشهودة. لكن مواقفه هذه تغيرت بعد صيرورته بطريركا، رغم انتقال مقر البطريركية من دمشق إلى لبنان! وكيف ينضوي لحام تحت ولاء الحكم البعثي الأسدي، إذا كان حريصا على فلسطين والقدس، وهو يعرف تماما عمل البعث السوري على الخصوص على تقسيم الحركة الوطنية الفلسطينية، وتفتيت النضال الفلسطيني وشرذمة الفلسطينيين إلى ما لا نهاية؟!

هناك أربعة أمور يمكن لها أن تعلل مواقف بطرك الكاثوليك، وبطرك الموارنة على الخصوص، وهي: الاستتباع الحاصل من جانب النظام السوري للكنائس في العقود الأربعة الماضية، ومواقف البابا الحالي من الإسلام والسياسات في الشرق الأوسط، والثقافة الاستشراقية لدى كبار رجالات الكنيسة أو التي تعلموها منذ الصغر في المعاهد الفاتيكانية والأوروبية، وعدم التعوّد على العيش في ظل نظام للحرية والانفتاح. فبالنسبة إلى العامل الأول (الاستتباع) يتساوى في ذلك الكنسيون و«أرباب الشعائر الدينية» من المسلمين، كما يسميهم النظام السوري. فقد خضعت هذه الهياكل لدى المسيحيين (الأرثوذكس والكاثوليك والموارنة) والمسلمين (السنة والأقليات الأخرى) للأجهزة الأمنية والسياسية للنظام، وما جرؤ أحد من هؤلاء الشيوخ والكهنة على التمرد والاستقلال باستثناء البطريرك الماروني السابق نصر الله بطرس صفير.

وإذا كان للبطرك الأرثوذكسي هزيم بعض العذر بسبب تقدمه في السن، فإنه لا عذر للبوطي وحسون ولحام والراعي (والراعي على الخصوص!)، إلا إذا اعتبرنا العلائق الغامضة والمتشابكة التي نسجها هؤلاء جميعا مع النظام الأمني الذي كان سائدا في سوريا ولبنان. وقد تعودوا على ردود الأفعال هذه طوال عقود، بحيث ما عادت هناك حاجة لأن يدعوهم رجالات الأسد كل يوم لتأييده! وهؤلاء المستتبعون لا يستطيعون الخروج من «الحالة» التي ما عادت في وعيهم إمكانية للتمرد عليها، أو تكشف الأجهزة الأمنية عن العلائق السابقة.

وهناك العاملان الثاني والثالث اللذان ذكرناهما والمتعلقان بموقف البابا الحالي الجاف من الإسلام من جهة، وثقافة البطاركة والمطارنة الاستشراقية المعادية للإسلام، باستثناء قلة قليلة منهم، من جهة ثانية. لقد تميز هنري لامنس من بين المستشرقين والمبشرين الكاثوليك بالمحبة للأمويين والتحزب لهم في وجه أهل البيت. وكانت حجته الظاهرة أنهم عرب عروبيون ما كانوا يميزون ضد المسيحيين، أما الواقع فإن هذا الحب كان لاعتقاده أن الأمويين ليسوا مسلمين حقا، وهم في أحسن الأحوال ضعيفو الدين! وعلى هذا النحو يفكر هؤلاء الكهنة الشيوخ بالأقليات الدينية الإسلامية، أي أن هؤلاء (مثل العلويين والشيعة) لا تسود بينهم الاعتبارات الدينية كأولوية في التعامل مع المسيحيين بخلاف السنة أو ما يسميه المستشرقون: أرثوذكسية سنية!

وهناك من يعتبر هذا الخوف من «أهل السنة» تاريخيا، ويعيده إلى ممارسات العثمانيين، إنما هناك أيضا من يعتبر هذا الخوف ناجما عن صعود الأصولية الإسلامية والإسلام السياسي في العقدين الأخيرين. وهنا نأتي للاعتبار الرابع: الدين في ظل الحرية، فرجال الدين المسيحيون والمسلمون - إلا قلة ناهضة منهم - ما تعودوا على العيش الديني والاجتماعي والسياسي الرحب في ظل الحرية. وكانوا يكتفون بحسن العلاقة بالحاكم وأجهزته. وهم مضطرون الآن إلى التعامل مع القوى الاجتماعية كلها، وقد أرعب ذلك رجال الدين المسيحيين والمسلمين على حد سواء. وقد عبر عن ذلك البابا شنودة عندما دعا الأقباط للرضوخ لحسني مبارك، وهو يدعوهم الآن للرضوخ للمجلس العسكري بمصر. فليس من المنتظر أن يستطيع هؤلاء الشيوخ والكهنة إدراك متغيرات الزمان والمكان، وما عادت عندهم الشجاعة لإعادة بناء مؤسساتهم بطرائق ديمقراطية وفعالة.

إن تصريحات الراعي ولحام لا تريد منافقة حزب الله والأسد من جهة، كما أنها ليست ناجمة بشكل بحت عن الخوف، وإنما هي العادة التي ألفوها في الخمول والامتيازات لأشخاصهم ومواقعهم وليس للمسيحيين أو المسلمين. وليس من المنتظر أن يستطيعوا التغير والإقبال على البناء من جديد. لكن شبان المسلمين والمسيحيين يعملون معا في الثورة السورية، مثل شبان الأقباط في الثورة المصرية، وهذا هو المهم والباقي: « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ».