رسالة عباس

TT

تباينت القراءات الإسرائيلية للرسالة التي وجهها، أو لم يوجهها، الرئيس محمود عباس إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتي تضمنت سردا للوقائع والحيثيات التي تقطع بمسؤولية إسرائيل عن تعطل عملية السلام، وسد الآفاق أمامها، بما في ذلك استحالة استئنافها وفق المنطق والسلوك الإسرائيليين، كما حددت الرسالة (التي وجهت أو لم توجه) شروط الفلسطينيين للتفاوض مع إسرائيل وهي الشروط ذاتها، المرفوضة من قبل إسرائيل جملة وتفصيلا.

القراءة الأولى هي تلك التي ترى الرسالة تعبيرا عن حالة يأس وصل إليها الرئيس محمود عباس، مما دعاه إلى إطلاق صرخة لا تلبث أن تضاف إلى جميع الصرخات التي أطلقها هو وغيره من القادة والزعماء الفلسطينيين والعرب، والتي لم تحقق أي أثر على الأرض؛ حيث تواصل إسرائيل سياسة الإلحاق المنهجي للقدس ولا تتوقف عن تطوير سلوكها الاحتلالي في الضفة الغربية، بما في ذلك مواصلة الاقتحامات والاعتقالات وتسمين المستوطنات، ومصادرة الأراضي ونشر الحواجز العسكرية التي حولت، ولا تزال، حياة الفلسطينيين إلى جحيم، إضافة إلى مواصلة عمل الإدارة المدنية الإسرائيلية وتطوير هذا العمل على نحو يقلص من دور السلطة الفلسطينية في إدارة شؤون الفلسطينيين ولو على نطاق محدود. وهذه القراءة، التي يتبناها اليمين الإسرائيلي الحاكم بقيادة نتنياهو، تؤدي إلى استمرار السياسة الإسرائيلية المتشددة، مما يجعل السلطة الفلسطينية في حالة يأس وإحباط بفعل استحالة تحريك الأمور باتجاه تفاوض فعال أو حلول ممكنة.

أما القراءة الثانية فهي ترى في رسالة عباس ما يشبه الإنذار إن لم يكن إنذارا حقيقيا، خصوصا حين اختتمت الرسالة بعبارة «وستكون الخيارات كلها مفتوحة».

لقد قرأ فريق من الإسرائيليين هذه الجملة على أنها تهديد بوقف أو تخفيض وتيرة التنسيق الأمني، وهو إجراء لو تم اتخاذه من جانب السلطة فلا بد أن يقود حتما إلى تداعيات دراماتيكية في غاية الخطورة على الوضع الهش الذي فرض على العلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية منذ تجميد المفاوضات.. ودخولها ما يسمى مجازا الحرب الباردة بين طرفي أوسلو؛ ذلك أن تراجع التنسيق الأمني بين الجانبين، مع اشتداد حالة اليأس الشائعة بين الفلسطينيين، يؤدي منطقيا إلى انتعاش نزعة العنف المتبادل والدخول مجددا في نفق مجهول لا يعرف أحد إلى أي خلاصة سيفضي، ولا كيفية الخروج منه.

وفوق ذلك فهنالك احتمال أكيد أن يصعد الفلسطينيون أنشطتهم المناوئة للاحتلال على الصعيد الدولي، بما في ذلك مواصلة طرق أبواب مجلس الأمن والجمعية العامة، إضافة إلى تفعيل نشاط «مجمد تقريبا» على مستوى المنظمات التابعة للأمم المتحدة، فإذا كان من غير المتاح للفلسطينيين مباشرة إثارة قضايا داخل هذه المنظمات بما يحرج إسرائيل وحلفاءها فإن باستطاعتهم، لو أرادوا، تحريك أطراف عربية وإسلامية وحتى دولية متعددة، لحمل مطالبهم وشكاواهم إلى هذه المنظمات، وواقعة غولدستون لا تزال قريبة في الذاكرة والواقع.

ويرى الإسرائيليون المتخوفون من الإهمال الرسمي للعلاقة مع الفلسطينيين أنه إذا لم يكن من العملي القيام بمبادرة سياسية جريئة من جانب الحكومة الإسرائيلية نظرا للانشغال في مراقبة تطورات ما يسمى الربيع العربي، ثم الانشغال المبالغ فيه بالملف الإيراني، وانتظار ما سيسفر عنه الموسم الانتخابي الأميركي المتزامن تقريبا مع الانتخابات المنتظرة في إسرائيل، فإن هنالك من يدعو إلى تقديم مبادرات جزئية لعلها تخفف من الاحتقان الخطر الذي يتفاعل في المجتمع الفلسطيني جرَّاء الجمود مثل تخفيف سطوة الحواجز العسكرية على حركة الفلسطينيين ومد سلطة الفلسطينيين على مساحات إضافية في مناطق «ب» مع تسهيلات في الحركة والاقتصاد، إلى حين نضوج فرص مخارج سياسية للوضع الراهن الرازح تحت ثقل جمود وانسداد غير مسبوقين.

منذ بداية مشروع السلام الفلسطيني - الإسرائيلي الذي أوشك على إكمال عقدين من الزمن، وكعادة الإسرائيليين في قراءة المؤشرات الصادرة عن الجانب الفلسطيني فإنهم لا يتطرقون إلا في حالات نادرة إلى جوهر المشكلة، لكنهم دائما لا يتقدمون ولو باقتراحات عامة حول الحلول. وبالتالي فإن ما يبدو مأساويا في الأمر كله أن الإسرائيليين يحاورون أنفسهم حول ماذا يمكن أن يفعلوا بالفلسطينيين، وخلاصة حوار من هذا النوع أن تظل الأزمة مستمرة وأن تظل النار كامنة تحت الرماد وحتى الحلول المجتزأة لتنفيس الاحتقان لن تكون لها فرصة في المدى المنظور، لا في أمر استئناف المفاوضات؛ حيث الشروط المستحيلة من كلا الجانبين، ولا في أمر التهدئة المؤقتة، فلا الإسرائيليون متفقون أصلا على ذلك ولا الفلسطينيون جاهزون لاعتبار هذا النوع من المهدئات مقبولا أو كافيا لحملهم على السكوت.

ملاحظة: كُتب هذا المقال قبل تسلم إسرائيل النص النهائي لرسالة عباس، إلا أنها في ما يبدو قرأت المسودة، وسربتها للصحافة، وقام الكاتب الصحافي المعروف أليكس فيشمان بالتعليق عليها!!