التكاليف المادية.. لخوف الأطباء

TT

في ما وصفته المصادر الطبية بأنه «نتائج فظيعة» (shocking results)، أثار تقرير البحث الإحصائي القومي الأول من نوعه قضية التكاليف المادية الباهظة التي تتكبدها أوساط تقديم الرعاية الصحية بالولايات المتحدة جراء سلوك الأطباء «مواقف حذرة» في التعامل مع مرضاهم.

في 9 فبراير (شباط) الماضي، وضمن فعاليات اللقاء السنوي للأكاديمية الأميركية لجراحي العظام «AAOS» (American Academy of Orthopaedic Surgeons)، عرض الباحثون من جامعة فاندربلت في ناشفيل بولاية تينيسي الأميركية دراستهم الطبية التي بحثت في مدى لجوء أطباء جراحة العظام إلى طلب إجراء المرضى لفحوصات طبية لا داعي لها، أو إدخالهم المرضى إلى المستشفيات دونما حاجة، أو طلبهم استشارات طبية لا ضرورة لها، وذلك خوفا من أن يتعرضوا لأي مساءلات قانونية نتيجة شكوى المرضى ضدهم في المحاكم الأميركية.

وكشفت النتائج «الصاعقة» لتقرير الدراسة عن أن جميع أطباء جراحة العظام المشمولين في هذه الدراسة اعترفوا بأنهم سلكوا هذا النهج في معالجة مرضاهم، وأن التكلفة المادية لخوف أطباء جراحة العظام وحدهم، أي من دون بقية أطباء الفروع الأخرى من الطب في الولايات المتحدة، يُكلف أكثر من 2000 مليون دولار سنويا.

ويعتبر هذا التقرير هو الأول من نوعه في الولايات المتحدة الذي يبين مدى التكلفة المادية الباهظة لسلوك أطباء جراحة العظام ما يعرف في الأوساط الطبية بـ«الطب الدفاعي» (defensive medicine)، وهو مصطلح طبي يقصد به لجوء الطبيب إلى ممارسة نوعية من المعالجة الطبية تعفي (exonerate) الطبيب من أي ادعاءات أو مساءلات قانونية تتهمه بالإهمال أو سوء المعالجة، وذلك عبر إضافة الطبيب إجراء المريض للمزيد من الخطوات العلاجية أو الفحوصات التي لا تفيد المريض البتة ولا تفيد معالجته ولا تخدم توفير الراحة له.

وعلق الدكتور مانش سيثا، جراح العظام المشارك في إجراء الدراسة، بالقول «في جميع أنحاء الولايات المتحدة، يتجه أطباء جراحة العظام بقوة بعيدا عن معايير الرعاية الطبية الصحيحة، ويقومون بإجراءات علاجية لا لزوم لها خوفا من المقاضاة القانونية. وعلى الرغم من أهمية الموضوع وتكاليفه المادية الباهظة، فإن أحدا لا يفعل شيئا حيال هذا الأمر».

وشملت الدراسة 2000 طبيب جراحة عظام، اعترف 97 في المائة منهم بأنهم يمارسون «الطب الدفاعي»، وأن 25 في المائة من التكلفة المادية لمعالجة مرضاهم ليست لدواع طبية بل لدواع دفاعية.

والمثير بشكل أكبر للدهشة ليس فقط سلوك كل الأطباء لنهج «الطب الدفاعي»، حيث يتعامل الطبيب مع مريضه بشعور الخوف من لجوء المريض في اليوم التالي إلى المحكمة متهما طبيبه بالتقصير وطلب التعويضات المادية منه، بل هو أن 85 في المائة من أطباء جراحة العظام المشمولين في الدراسة اعترفوا بأنهم يمارسون نوعية «الطب الدفاعي السلبي» (negative defensive medicine)، وهو مصطلح شائع في الأوساط الطبية يعني انتهاج الطبيب سلوكيات تحاشي ورفض معالجة الحالات الخطيرة للمرضى أو الاقتصار على إجراء عمليات علاجية محدودة الجدوى لهؤلاء المرضى كي لا تحمل في طياتها احتمالات مساءلة الطبيب قانونيا، أي مثل رفض الطبيب إجراء عملية جراحة لأي مريض قلب أو مريض سكري، أو رفض الطبيب معاينة أي مريض في قسم الإسعاف، أو غير ذلك.

وفي معرض التعليق على تعلق المرضى والأطباء بإجراء المزيد والمزيد من الفحوصات التي لا داعي لها خوفا من عدم اكتشاف شيء ما خفي، قال الدكتور دوغلاس لاندي، طبيب جراحة العظام ورئيس لجنة الشؤون الطبية القانونية بالأكاديمية المذكورة «ثمة إيمان عميق وراسخ اليوم بدور التكنولوجيا في ممارستنا الطبية، وعدم اللجوء إليها بشكل كبير يجعل الطبيب يبدو وكأنه لم يفعل كل ما هو مطلوب منه، وثمة ثقافة شائعة في مجتمعاتنا أننا نستطيع الحصول على كل شيء حينما نشاء. إن إصلاح مشكلة ممارسة الطب الدفاعي السلبي وتعديل الخلل فيها يتطلبان إصلاحا كبيرا وضخما في جانب المسؤوليات القانونية للقضايا الطبية، وذلك على المستوى الفيدرالي».

وأحد الحلول المقترحة من جانب الدكتور سيثا، هو وضع إرشادات طبية واضحة، ومطالبة الطبيب بتنفيذها، ومطالبة المريض بعدم محاسبة الطبيب إذا ما أدى الالتزام بها إلى أي أضرار على المريض. لكن الواقع أن هذا لا يعتبر حلا، والإرشادات الطبية متوافرة من عشرات السنوات ويتم تحديثها من وقت لآخر، وكثير من الأطباء ملتزمون بها، لكنها تظل إرشادات طبية غير ملزمة ولا تنطبق حتى على نسبة متدنية من المرضى.

المشكلة ليست في طريقة معالجة الطبيب للمريض فقط، وليست في مستوى توقعات المرضى من أطبائهم، فمعالجة المرضى عملية لا تتم فقط بين الطبيب والمريض وحدهما، وبداية حل هذه المشكلة تكمن في بناء الثقة بين الطبيب والمريض بشكل متبادل. وثقة المريض في الطبيب مبنية على ثقته في أمور كثيرة تتعلق بجودة مستوى تعلمه، وجودة مستوى دقة ممارسته، وجودة مستوى نظام المستشفى الذي يعمل الطبيب فيه، وجودة مستوى طاقم التمريض، وجودة مستوى الخدمات المقدمة للمرضى، وغيرها كثير. وثقة الطبيب في المريض شأن آخر يطول شرحه.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]