روح السوريين الجديدة: أبعد من التظاهر!

TT

الآن وبعد عام من ثورة السوريين الهادفة إلى تغيير حياتهم ومستقبل بلادهم، قد يكون من المهم التوقف عند بعض ما حدث في مفاصله العامة، وما شهدته مجريات الحياة من تبدلات في حياة أغلب السوريين، بمن فيهم المقيمون منذ سنوات طويلة خارج وطنهم، رغم أن كثيرين قد يقولون إن شيئا لم يحدث في البلاد ما دام النظام القائم في دمشق لم يتبدل، ولم تتغير سياساته ومواقفه، وهو يتابع ادعاءاته عن الإصلاح والتغيير. وفي الجهة الأخرى لم يغير المحتجون السوريون من مواقفهم في الإصرار على التظاهر والاحتجاج والمطالبة بإسقاط النظام الاستبدادي واستبدال نظام ديمقراطي تعددي به، يوفر العدالة والمساواة وحكم القانون، ويوفر الحقوق السياسية والاجتماعية الفردية والجماعية للسوريين.

ورغم أن التظاهر والاحتجاج هما السمة الغالبة للحراك العام في المشهد السوري مقابل القمع الشديد، فإن ثمة تعبيرات وممارسات تتوالى في الأوساط السورية الواسعة، يتداخل فيها ما يأتي تلبية لاحتياجات طارئة مع ما هو مطلوب في إطار رسم المستقبلات البديلة لحياة السوريين الراهنة، وتبدو هذه التعبيرات والممارسات محصلة جهود مشتركة من طيف سوري واسع، لا يقتصر على المتظاهرين والمحتجين ومشاركة المعارضة السياسية، بل يظهر فيه حضور ملموس لسوريين من خارج التجاذبين الحادين ممثلين في السلطة وأنصارها من جهة، والمتظاهرين مع قوى المعارضة السياسية من جهة ثانية.

والمشاركون السوريون من خارج معارضي السلطة أغلبهم ممن وقفوا خارج الحراك الشعبي ومؤيديه الداعمين في داخل البلاد وخارجها. لكن تطورات الأحداث دفعت بهم للانخراط في تعبيرات وممارسات تتصل بالثورة وضروراتها، أو ببعض من نتائجها اللاحقة التي أخذت تتشكل في الواقع، الأمر الذي يعني أن ثمة تحولات تجري خارج فعاليات التظاهر والاحتجاج، وهي تحولات تعبر عنها المساعدات المادية والعينية وعمليات الإغاثة الطبية والإنسانية، وكذلك إقامة البنى والهيئات الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي لا ينضوي بعضها في الإطار المباشر للصراع الجاري في سوريا بين السلطة ومعارضيها.

إن الأسباب الرئيسية لهذه التحولات إنما تتمثل في عوامل متعددة ومعقدة تتداخل فيها الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي طفت على سطح الحياة السورية في العام الماضي من عمر الثورة، وكان الأبرز فيها صعود الوطنية السورية، والتي حاولت من مواقع مختلفة تأكيد الخصوصية السورية في إجمالي اللوحة العربية، وجاءت تطورات الوضع لتعطيها ملامح جديدة لشجاعة السوريين وإصرارهم على السعي لتغيير حياتهم ورسم مستقبلات أخرى لأجيالهم القادمة ولبلادهم، وفرض هذا الوضع نفسه على السوريين في الداخل والمهاجر، الأمر الذي يفسر حراك سوريي المهاجر الواضح، والذي لم يكن حاضرا وملموسا على مدى سنوات وعقود سابقة.

والعامل الثاني يبدو ظاهرا في آثار ما شهدته البلاد من نتائج للعمليات الأمنية - العسكرية، حيث وقعت خسائر بشرية ومادية كبيرة ودمار واسع، يعجز الذين وقع عليهم أن يحتملوه، مما تطلب تضامنا واسعا من جانب السوريين الآخرين في البلاد وفي المهاجر.

أما العامل الثالث الذي لا يقل أهمية عن سابقيه فهو انشغال السوريين واهتمامهم بما بعد الأحداث الحالية. ذلك أن ما يحصل الآن في البلاد سوف ينتهي، وسوف ينتقل السوريون إلى ظروف أخرى، مما يتطلب - لا سيما من نخبتهم السياسية والاجتماعية والثقافية - التفكير في ما ينبغي القيام به من أجل المستقبل، سواء تعلق الأمر برسم الآفاق والخطط، أو بإقامة البنى والهيئات اللازمة، والتي من شأنها توفير فرص أفضل للحياة المستقبلية.

إن تجليات روح السوريين الجديدة فيما هو أبعد من التظاهر تتجسد إجرائيا في مساعدة ضحايا السياسات الأمنية - العسكرية، وتوفير أسس مادية واجتماعية تجعلهم أقدر باتجاه استعادة حياتهم عبر توفير الغذاء والدواء واللباس والسكن، وقبل كل ذلك الأمان، وكلها مهمات عاجلة تندفع فئات سورية كثيرة على طريق العمل عليها، لا سيما من الشباب على نحو ما تفعل «حملة حمص في قلوبنا» الشبابية وغيرها.

والأمر الثاني في تجليات الروح السورية تمثله مبادرات متنوعة ذات دلالات سياسية واجتماعية هدفها معالجة الأوضاع الراهنة على نحو ما كانت عليه مبادرة المنبر الديمقراطي الوطني السوري الأخيرة والهادفة إلى توسيع مساحة الحوار بين السوريين، والمبادرة بالبحث عن حلول ومعالجات للأزمة القائمة أو لبعض من تجلياتها، وهو ما يمثل جزءا من هاجس الهم المستقبلي الذي يبحث في صورة سوريا القادمة، البلد الديمقراطية التي تهم وتعني كل مواطن فيها من دون تمييز من أي نوع كان.

السوريون بروحهم الجديدة إنما يعكسون بعمق ما يتجاوز رغباتهم في تغيير حياتهم ومستقبل بلدهم، إلى معالجة ما ينتج عن ذلك من آثار وتداعيات يومية وإجرائية، قبل أن ينتقلوا للتفكير في ما سيكون عليه وضعهم المستقبلي في جوانبه المختلفة.