الرجل الذي فقد أنفه وحزبه ومقعده النيابي

TT

أدين باعتذار لقراء «الشرق الأوسط»، بعد أن نقلت لهم في العدد الماضي معلومة غير صحيحة عن نائب في مجلس الشعب تعرض على الطريق الصحراوي لحادث سطو مسلح، ثم اتضح بعد ذلك أن الضمادات التي كانت تغطي وجهه لم تكن أكثر من جزء من عملية تجميل أجراها لأنفه. تلك الضمادات التي أقنعتني في البداية بأن العصابة التي هاجمته مزقت وجهه تمزيقا على حد ما اجتهدت في الوصف. إنني أعتذر وأطلب البراءة لقلمي بناء على تلك القاعدة القانونية التي لا أعرف بالضبط من أرساها، وهي أن ناقل الكذب ليس بكاذب. غير أن هذه الواقعة علمتني ألا أثق كثيرا في ما ينشر على صفحات الجرائد الأولى من تصريحات وحوادث، وأن عليّ أن أنتظر عدة أيام قبل التعليق عليها، فربما يجد جديد ينسف القديم.

أصارح القارئ بأنني في البداية أحسست برغبة جارفة تدفعني إلى إدانة النائب، فالكذبة هذه المرة هائلة، وإن كانت تتسم بالطرافة، غير أنني بعد أيام قليلة، بعد أن تخلى حزبه عنه، وبعد أن تخلى أطباؤه عن قسم أبقراط الذي أقسموا عليه، وهو الحفاظ على أسرار مرضاهم، وبعد أن تقدم باستقالته لمجلس الشعب وسط ترحيب الأعضاء جميعا، وبعد أن تقدم باعتذار صادق لناخبيه وأهل دائرته وحزبه وأعضاء مجلس الشعب.. بعد ذلك كله بدأ يستولي عليّ إحساس غريب بالعطف على هذا الرجل. بالطبع لست أؤيد سلوكه المعيب، غير أنني فوجئت أنه لا أحد من أصحاب الأقلام اهتم بمعرفة الأسباب الدفينة داخل اللاوعي التي أوصلت الرجل إلى هذه الكارثة التي ستطارده إلى الأبد وكأنه الكاذب الوحيد في عالم السياسة، أو كأنه مطالب وحده بدفع ثمن كل الأكاذيب التي كذبها كل الكذابين في ميدان السياسة وشوارعها وحواريها.

هل تذكرون حكاية كلينتون مع مونيكا؟

لقد كذب الرجل، قال إنه ليس على علاقة بها، ثم أوضحت التحقيقات بعد ذلك كذبه، غير أنني كنت طول الوقت على يقين من أن الشعب الأميركي نفسه لن يدينه، وأنه طبقا للقانون الأميركي ليس مدانا بسبب ما يسمى «الدافع الذي لا يقاوم» (Irresistible motive). لقد استولت عليه رغبة من الصعب جدا على البشر مقاومتها وهي قضاء لحظات تسلية ومداعبات مع مونيكا في ليل البيت الأبيض الموحش البارد بعد يوم سخيف وممل من التعاطي مع مشاكل العالم (إذا قلت لي إنك قادر على مقاومة مونيكا فسأتهمك بالكذب على الفور أو أطلب منك الذهاب لأقرب عيادة طبية...).

فهل تعرض النائب لدافع يستحيل مقاومته دفعه للكذب؟

الإجابة هي: نعم.. والدافع هنا هو الفكرة التي يعتنقها زملاؤه وأعضاء حزبه عن عمليات التجميل، وربما عن كل العمليات الجراحية، بدعوى أنها تدخل في ما خلقه الله سبحانه وتعالى. هم يعتقدون أن الجراحات التجميلية كفر صريح. غير أن الرجل كان يتألم، حقا أو وهما ليس هذا هو المهم، المهم هو اعتقاده الراسخ بأنه سيكون أفضل حالا بأنف حجمه أقل. إنها حالة «عدم الموافقة على الذات كما هي عليه» وهي غالبا تستند إلى الوهم بأكثر مما تستند إلى الواقع.

وعموما، ما يصنع جمال الوجه ليس بالضرورة مقاييس ملامحه، بل الإحساس بالحب. تذكر ما قاله نزار «قولي أحبك.. فبغير حبك لا أكون جميلا»، أنت جميل بقدر حب الحياة لك، بمعنى أدق بقدر حب المحيطين بك، وهو الأمر الذي لن يحدث إلا في حالة وحدة وهي أن تحرص على إعطاء الحياة كل ما تملكه من حب. غير أنك عندما تكون عضوا في جماعة تحرّم على البشر البهجة، وتحرمك من حقك في أن تكون ما تشاء ومن تشاء، وتفرض عليك بشكل صارم أن تتخلى عن فرديتك وأفكارك الخاصة، وأن تخشى إعلانها، فلا بد أن تؤلمك غاية الألم فكرة مصارحتهم بأنك ترى أن أنفك من الممكن أن يكون أكثر جمالا بإجراء عملية جراحية بسيطة. الواقع أن الكثيرين يخجلون من الإعلان أنهم أجروا جراحات تجميل، في ما عدا سيدة واحدة تتسم بالجمال والشجاعة وهي نانسي عجرم، هي الوحيدة التي قالت علنا «ما هو الخطأ في أن يكون الإنسان أكثر جمالا؟».

بقدر قليل من الخيال أنا أطلب منك أن تضع نفسك مكان هذا النائب في قاعة البرلمان بينما هو منشغل طول الوقت بفكرة مؤلمة وهي أن أنفه سيقف حائلا دون مجده السياسي. سيجول ببصره بين الجالسين جميعا مقارنا أنفه بأنوفهم، خارجا من ذلك بأفكار واستنتاجات تزيد من ألمه: «آه لو كان لي أنف عمرو الشوبكي».. «آه لو كان لي أنف عمرو حمزاوي. أعتقد أن أنفه، وليس أفكاره، هو ما جذب بسمة إليه».. «ترى لماذا أنوف الليبراليين جميلة؟ لا بد أنه التمويل الأميركي».. لماذا كل من اسمه عمرو له أنف جميل.. حتى عمرو موسى؟».. الدكتور الكتاتني أنفه ليس (محندقا) غير أنه ليس كبيرا مثل أنفي.. يخيل إلي أن أنفه كان أكبر من ذلك قبل تعيينه رئيسا لمجلس الشعب، فماذا فعل..؟ لا بد أنه أجرى جراحة تجميلية.. في الغالب الأميركان قاموا بإجرائها في سرية تامة، لا بد أن ذلك حدث ضمن صفقة سياسية.. نحن نقلل حجم مناخير أي حد عندكم وأنتم تقللون من حجم كمية العداء والكراهية لأميركا».. «آه يا ربي، أنا أتألم فماذا أفعل؟ آه لو أن الجماعة المهيمنة على حزب النور اقتنعت بأن كل واحد حر في أنفه وأن ذلك ليس حراما»!!

الصراع المؤلم بين ما يريده هو وبين القيود الحديدية التي يفرضها حزبه على عقول أعضائه، كان لا بد أن تنتهي بهذا القرار تحت تأثير «الدافع الذي لا يقاوم»، وهو ما يبرئه من تهمة الكذب. تقول زوجته «أنا أصدق أن أكذب أنا ولا أصدق أن يكذب زوجي»، وهي على حق في ذلك، فهذا الرجل ليس كاذبا محترفا وإلا لكان أخرج الرواية كلها بطريقة مختلفة تضمن له أن يخرج من الحكاية كالشعرة من العجين. أكاد أجزم بأنه شخص حساس للغاية وقليل الخبرة، ولو أن حزبه كان يؤمن بحرية الفرد في التعبير عن أفكاره لكان قد أنقذه من المشكلة التي تنتظره عند فك الضمادات. كان من الممكن للأطباء أعضاء الحزب أن يشرحوا له أن العملية ليست بالسهولة والخفة التي يتصورها، وأنها تحتاج إلى دراسة وإعداد طويلين لكي لا يفاجأ بأن أنفه أصبح أصغر من اللازم أو أعرض من اللازم، أو يصلح فقط لوجه آخر. لست أشعر بالاطمئنان إلى السرعة واللهوجة التي تمت بها العملية، وأخشى عندما ينظر في المرآة للمرة الأولى بعد فك الضمادات أن يصيح في تعاسة: «يا رب.. رجع لي مناخيري تاني».

هذا ما حدث لي بالضبط عندما كنت شابا، أجريت عملية تجميل لأنفي، ثم عملية ثانية وثالثة ورابعة، وفي كل مرة لم أكن أرضي عنه، وأخيرا توسلت إلى جراح عالمي أميركي أن يعيده إلى ما كان عليه، وكانت العملية صعبة للغاية ومكلفة، غير أنه نجح في إعادته إلى ما كان عليه تقريبا.