مهمة «الدابي 2».. هدية السنة الأولى للسوريين

TT

«في نهاية المطاف لن نتذكر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا»

(مارتن لوثر كينغ الابن)

بالأمس، مع اقتراب الثورة السورية من إكمال سنتها الأولى، كان المشهد في مقر جامعة الدول العربية مؤلما.. بل مخجلا.

لا أدري ما نوقش في الكواليس بعيدا عن الإعلام، لكنني سمعت وشاهدت على شاشة التلفزيون كلمة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أمام وزراء الخارجية العرب. ثم التصريح الصحافي المُقتضَب الذي تُليَت فيه النقاط الخمس «المتفق» عليها بين الجامعة وموسكو.

مثل كل مبادرات جامعة الدول العربية بقيادة أمينها العام نبيل العربي إزاء سوريا، خلال الأشهر الـ12 الأخيرة، كانت هذه المناسبة خذلانا بشعا آخر للشعب السوري ونضاله البطولي. ولقد «تألق» الدكتور العربي، الذي بات على كل منا أن يمسك قلبه بيده هلعا كلما عرض اقتراحا أو اجترح مبادرة أو أدلى بتصريح، مجددا في اختيار أسوأ توقيت لزيارة لافروف. وكان الأمين العام قد تكلم قبل أيام عن «مؤشرات على تغير في موقف موسكو»، ولكن خلال ساعات معدودات صدر نفي قاطع لحدوث أي تغيير.. من الخارجية الروسية نفسها.

وبالأمس، بينما كان الموفد الدولي العربي، كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، يبدأ «وساطته» - الفاشلة سلفا - في دمشق، ويلتقي رأس النظام السوري، كان لافروف يكرر أمام وزراء الخارجية العرب بصفاقة غير مسبوقة «ثوابت» موسكو إزاء نظام الأسد في دمشق. وهي الثوابت التي أدت لاستخدامها «الفيتو» مرتين خلال بضعة أشهر.. مما أتاح للأسد قتل ألوف أخرى من الأبرياء وتدمير مزيد من المدن والبلدات والقرى.

لا حاجة للتساؤل عن سبب تفاؤل العربي ومعطياته، فمتابعة «إدارته» البائسة للعمل الدبلوماسي العربي تجعل من أي مساءلة جدية خطوة عديمة الجدوى. فالرجل، على ما يظهر، لا يدرك خطورة ما يعنيه استمرار نظام بشار الأسد. لكن ما يزيد الطين بلة أنه يتصرف متأثرا بالمنظور السياسي المتخبط للدبلوماسية المصرية - منذ بعض الوقت - إزاء تعقيدات أزمات المشرق العربي. وهذا ما عبرت عنه قبل أيام تصريحات وزير الخارجية المصري، محمد كامل عمرو، الرافضة تسليح المعارضة السورية «لمنع نشوب حرب أهلية!».

سقوط عشرات الألوف من القتلى والمختفين لا يعني في قاموس الوزير عمرو، وقبله الدكتور العربي، وجود «حرب أهلية» فعلية، مع أن ثمة رئيس جمهورية مصريا معزولا يواجه اليوم، من قفص الاتهام بالذات، تهمة إصدار أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين! ولكن «استقالة» الدبلوماسية المصرية من مسؤولياتها الإقليمية ليست ابنة البارحة. فعلى الرغم من ثقل مصر القومي والإقليمي، غابت تصوراتها الاستراتيجية ومبادراتها، لفترة غير قصيرة، عن الفضاء الجيو - سياسي العربي منذ سنوات طويلة إبان فترة حكم مترهل وضيق الأفق.

هنا من الواجب القول إن مصر ليست الجهة الملومة الوحيدة. مصر مقصرة فقط، وهي مقصرة أولا وأخيرا بحق نفسها. كما ينبغي القول إنها في ظروفها الراهنة قد تكون معذورة.

أما غيرها من القوى المفترض بها أنها معنية بالدفاع عن الشعب السوري، أو تلك التي تزعم الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها وترسيخ الديمقراطية وحمايتها، فهي إما متواطئة مع حكام دمشق.. أو ضالعة في مؤامرة ضد الشعب السوري.

روسيا والصين وإيران دول صريحة في دعمها الفعلي للنظام السوري، ومباركتها قمعه الوحشي لأسباب متنوعة، لا حاجة لتكرارها، إلا أن الضربة الموجعة التي تلقتها الثورة السورية، أشرف الثورات العربية وأشجعها على الإطلاق، جاءت من جهات كان كثيرون يتصورون أنها ستحميها.

الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تكن في الماضي تتعاطف مع الثورات الشعبية على امتداد العالم الثالث، غيرت مواقفها وأخذت تؤيد حق الشعوب في تقرير مصيرها بعد انتهاء الحرب الباردة وانفرادها بزعامة العالم عام 1989. إذ سقط من قاموسها ادعاء «اضطرارها» للسكوت على الأنظمة الديكتاتورية، بعدما انهار مبرر الحاجة إلى التصدي للتغلغل الشيوعي في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وحقا، بمجرد انهيار «جدار برلين» ومن ثم سقوط الاتحاد السوفياتي، نجح اليسار في الوصول إلى الحكم في غالبية دول أميركا الجنوبية، وعلى رأسها الدولتان الأكبر؛ البرازيل والأرجنتين، بل خلال العقدين الأخيرين لم يحكم اليمين إلا دولة واحدة فقط في القارة هي كولومبيا.

وفي المنطقة العربية، والشرق الأوسط عموما، بعد تراجع مد اليسار التقليدي برز اليمين الديني، ممثلا في الأحزاب والقوى الدينية بديلا طبيعيا وشبه حتمي للأنظمة العسكريتارية و«الجملوكية»، أي الجمهوريات الملكية القائمة على العائلة والطائفة والقبيلة.. التي زعمت في يوم من الأيام أنها «ثورية» هاجس وجودها وحلم حياتها تحرير فلسطين وتوحيد الأمة (!؟).

في إيران، أزاحت «الثورة الإسلامية» حكم الشاه.. مع أن بدايتها الديمقراطية «الشورَوية» تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى حكم الأجهزة الأمنية وتسلط «الحرس الثوري» وانحصار التنافس على السلطة ضمن القيادات المحافظة الإقصائية الرافضة للرأي الآخر. ولم تلبث تركيا أن سارت على طريق «الإسلام السياسي» بنسخته السنية ووجهه المعتدل الواقعي، القادر على التعايش مع إرث أتاتورك العلماني. أما في إسرائيل، الكيان اليهودي التوراتي، فاندثر حزب العمل الاشتراكي، الذي كان في العقود الأولى من عمر الكيان «حزب السلطة» الطبيعي، وغدت القوى التوراتية اليمينية القاعدة الصلبة التي يعتمد عليها اليمين المسيطر على الساحة.

هذه الخلفية، أسهمت بطريقة أو بأخرى في خلق بيئة ما عُرف بـ«الربيع العربي»، بعدما وصلت «الجملوكيات» والعسكريتاريات المترهلة إلى طريق مسدود، واصطدمت بإدارة أميركية ليبرالية زعمت ذات يوم أنها حقا تؤمن بحقوق الإنسان، وعلى رأسها حقه بتقرير مصيره.

وبالفعل، سحَبَت هذه الإدارة بسرعة فائقة البساط من تحت قدمي نظامين طالما اعتبرهما خصومهما «تابعَين» لواشنطن، في تونس ثم مصر. ثم قادت تحالفا عسكريا أسقط سلطة غاشمة متخلفة في ليبيا بدأت عهدها «ثورة ضباط شباب» راديكالية لتنتهي نسخة مشوهة حتى عن «الديكتاتوريات الأبوية» في هايتي (دوفالييه) ومالاوي (باندا) وساحل العاج (هوفويت بوانيي).

ولكن فجأة، بعد تشجيع وحماسة منقطعي النظير وصلا إلى حد التحريض، انكشفت أولويات واشنطن إزاء سوريا، حيث حكم منذ 1970 أحد أقسى الأنظمة الأمنية التسلطية في الشرق الأوسط.

خلال 12 شهرا من الانتفاضة البطولية للشعب السوري الثائر تدرج الموقف الرسمي الأميركي - ومعه الخطاب السياسي لدول الاتحاد الأوروبي - نزولا، من التشجيع والمباركة على الثورة والوعود بالدعم، إلى الاكتفاء بانتقاد النظام وفرض عقوبات محدودة الوقع على رموزه، فالتمنيات بزواله قريبا، وصولا إلى الإعراب صراحة عن المخاوف من نجاح ثورته لئلا يستفيد منها الأصوليون الإسلاميون!

هل هناك تفسير لهذا الموقف؟ طبعا، إنه خطاب تقديم الاعتماد والاستجداء الرخيص للأصوات الانتخابية، الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام «آيباك»، أقوى جماعات «اللوبي» الإسرائيلي، في واشنطن. فإسرائيل ضد إسقاط الحكم الذي قدم لها أفضل الخدمات على امتداد 42 سنة.

هذا هو التفسير. وهو يندرج، بالتتابع، على موقفي الاتحاد الأوروبي وتركيا.. التي تستضيف المؤتمر التالي لـ«أصدقاء سوريا».

وصدق مَن قال: «رب اكفني شر أصدقائي.. أما أعدائي فأنا كفيل بهم!».