حينما يفتقد الربعي

TT

في مثل هذا الشهر قبل أربع سنوات، غيَّب الموت أستاذنا أحمد الربعي، الرجل الذي ملأ حياتنا نقاشا. وأشعر، مثل كثيرين، أننا فعلا فقدناه في عالم شارك في صناعته وجادل في قضاياه. كان الربعي من أكثر المفكرين العرب اختلاطا بالمدرجات الجامعية؛ حيث حافظ على وجوده هناك محاضرا ومعلما ومحاورا، ولم تكن له مجرد وظيفة عمل.

دخلت معه، رحمه الله، في نقاشات متفرقة حول القضايا نفسها التي تهز المنطقة العربية اليوم، وغادرنا قبل أن يشهدها، ولا أحتاج إلى أن أكرر ما كرر هو في كتابته عن ضرورات التغيير من مفهوم إشكالات الفوارق الزمنية والضرورات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية. الربعي لم يكن أكاديميا متقوقعا داخل أسوار الجامعة، بل استند في رؤيته أيضا إلى تجربته الميدانية، ومخالطته الاجتماعية، ومشاركاته السياسية، إلى جانب الثقل الثقافي الهائل الذي ميزه.

كان يكرر نفس العظة الموسومة بالإحصاءات، الشباب أغلبية ساحقة والفارق يتسع والحكومات العربية جاهلة، غير مدركة أن لهذه الأرقام معاني حقيقية لا يمكن إنكارها. ومع هذا كنت أجادله متسائلا: يا أبا قتيبة، الأعمار تصغر والأرقام تكبر منذ زمن. ومع هذا الأمر الواقع بقي واقفا في محله. فهل الأرقام مجرد أرقام، أم أن بنية مجتمعاتنا قديمة تقوم على تقاليد مبنية من خرسانة إسمنتية يصعب قهرها؟

في الإطار نفسه، قلت له مرة: لو كنت أنوي فتح مصنع «كوكاكولا» لكانت هذه الأرقام مهمة لأنها ستدلني كم عليَّ أن أنتج، لكن كيف للحكومات أن تعيد التفكير وهي لا تشم رائحة تغيير؟ بل على العكس تماما، قوى المجتمع الحالية تقوده إلى الماضي، الأمر الذي يناقض، بشكل صارخ، الاستنتاج الذي توحي به أرقام الأجيال الجديدة التي تريد المستقبل. الربعي كان يجادل حقا أن العالم سيتغير، على الرغم من أن مظهره يوحي بالثبات والديمومة. ربما لم يتخيل قُطر دائرة الانفجار الذي حدث بعد ثلاث سنين من وفاته، لكنه كان يشم رائحة البركان ويجادل حولها.

أما لماذا نفتقد الربعي؟ فالسبب أن مثله قليل، من يملك الرؤية والشجاعة والمعرفة. في خضم الأحداث المعقدة، نحتاج إلى قيادات قادرة على أن تلعب دور المرشد، تساعد الجميع على فهم الوضع الذي يبدو معقدا ومتناقضا. فنحن نرى أن الشباب في مصر وتونس، البلدين اللذين غيَّروا فيهما الوضع وحكموا الشارع السياسي، يخرجون فاشلين بسبب نقص خبرتهم، وضعف تنظيمهم، وتجاهل المجتمع الذي حاربوا من أجله ومع هذا لم ينتخبهم ولم يعترف بهم.

لو كان الربعي موجودا لراهن على أن الحكام الجدد في تونس ومصر لن يستمتعوا طويلا حتى تنفجر الأوضاع مرة ثانية، ليس بسبب الفقر، بل نتيجة اختلال التوازن الاجتماعي، الكثافة الشبابية في المجموع السكاني، التي ستناهض حكم الإخوان والسلف والأحزاب الوطنية القديمة والعسكر. المشهد الآن يبدو مائلا، الذين يجلسون على أكثر من 90% من كراسي البرلمان المصري يجلسون بفضل الشباب الذين لم يجدوا سوى أقل من 10% من المقاعد. الوضع لم يتبدل كثيرا بما ينذر بتكرار الصدام في مرحلة لاحقة.

[email protected]