مأكول ومذموم

TT

ينطبق المثل العراقي «مثل السمك مأكول ومذموم» على نظرتنا للغرب. نحتاج إليهم ونلوذ بديارهم ونطلب عونهم ثم نسبهم ونذمهم. يتساءل الزميل عبد الرحمن الراشد عن سر اعتراض المغاربة على أي تدخل خارجي في سوريا.

يعود هذا الاعتراض إلى نظرتنا الدونية نحو الغرب. وكما ذكرت مرارا وتكرارا، تنبثق هذه النظرة من النزاع الجيوفيزيائي السياسي بين شمال البحر المتوسط وجنوبه لآلاف السنين. والمغاربة أشد من المشارقة تعصبا في هذه النظرة، بسبب تحملهم المواجهة المباشرة مع الغرب، إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال. يعتبرون كل غربي روميا وكل رومي صليبيا.

تعززت هذه النظرة بفعل العداء ضد الإمبريالية، وما ابتلينا به من آثار اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور وما فعلته إيطاليا في ليبيا وفرنسا في دول المغرب. أصبح هذا الكره جزءا من نفسيتنا وتراثنا. اعتراضنا على التدخل الأجنبي وأي وجود أجنبي فعل تلقائي مهما كان الأمر ومهما تطلبت الظروف واقتضت المصلحة.

انقسمت الشعوب العربية الآن إلى ثلاثة أقسام؛ الأول من انتصروا على الاستبداد من دون تدخل أجنبي، كتونس ومصر، الثاني من احتاجوا لمشاركة طائرات الغرب في قهر الاستبداد كليبيا، الثالث من حملوا الغرب المسؤولية الكاملة في إطاحة الاستبداد كالعراق. ينظر الفريق الأول للفريق الثاني باستياء. وينظر الفريقان الأول والثاني للفريق الثالث بكامل الاحتقار. يظهر أن العراقيين شعروا بهذا الاحتقار فنشطوا الآن في شتم اليد التي أطعمتهم النصر. تسمعهم جميعا يتزايدون في الصراخ في شتم الأميركان ومطالبتهم بالجلاء بعد أن جلوا في الواقع وتركوهم وشأنهم. ولكن شتم الأميركان أصبح الموضة السياسية الرائجة. من لا يشتمهم من أمثالي يعتبرونه خائنا.

لا يمكن إنقاذ الشعب السوري الآن من دون تدخل أجنبي بصورة من الصور لوقف هذا النزيف الدموي. لا بد لنا من تنقيح نظرتنا نحو الغرب. وأنصح كل من يشتمني بأن يقرأ التاريخ قبل أن يشتمني. التدخل الأجنبي ظاهرة تكررت في كل زمان وكل مكان. أقرب مثال الحرب العالمية الثانية. لماذا جرت؟ لأن شعوب أوروبا ناشدت بريطانيا وفرنسا وأميركا أن يأتوا ويخلصوهم من هتلر. ومن هي العائلة المالكة الآن في بريطانيا؟ إنهم أحفاد ملك هولندا، ويليام أورانج، استنجد به الإنجليز بأن يأتي بجيشه ويخلصهم من حكم الملك شارل الثاني المستبد. استجاب لندائهم وجاء وحررهم. واعترافا بجميله نصبه الإنجليز ملكا عليهم. لم يشتموه كما فعل العراقيون بالأميركان الذين خلصوهم من صدام. كل ما في التاريخ من منجزات وخطوات حضارية نتجت من غزو أمة متطورة لأرض أمة متخلفة. كان العراق عام 1917 من أكثر دول العالم تخلفا. لم يكن فيه غير طريق معبّد واحد طول نصف ميل. جاء الإنجليز وأقاموا فيه أسس كل ما عرفناه من معالم الحياة المتمدنة. السكك الحديدية، الكهرباء والتليفون، النقل الجوي، ميناء البصرة، البرق والبريد، المتحف العراقي، البرلمان، الكلية الطبية، وكل ما نعتز به وخربناه الآن. لدينا اليوم حكومة وطنية مضت عليها تسع سنوات ولم تستطع تصليح التليفون والكهرباء، ولا حتى خدمات البوسطجية.