«الإنتوراج»

TT

«الإنتوراج» باللغة العربية هي البطانة أو الحاشية أو الأشخاص المحيطون بذوي النفوذ، فهي، والأمر كذلك، تعطي معنى أوسع من كلمة حاشية بالعربية أو البطانة فقط. ما أرمي إليه هو الحديث عن ظاهرة عربية بامتياز ويمكن ملاحظتها بكل بساطة هذه الأيام في سيل من المقالات والدراسات والكتب التي بدأت الحاشية القديمة بنشرها على الملأ عن شخص حسني مبارك ومن معه، وعن شخص علي صالح ومن معه، وعن شخص معمر القذافي ومن معه، بل وأصبحت مادة يتسابق عليها الناشرون لأنها تحتوي على ري ظمأ الكثيرين الذين لم يكونوا يعرفون «الأسرار» أو لم يتسنَّ للحاشية قبل السقوط كسر الحاجز عن تلك الأسرار إلا همسا. هذه الظاهرة العربية المريضة هي التي سببت الربيع العربي بشكل ما، ولها علاقة بالتربية التي في جانب منها تجعل الناس تتجنب إعمال العقل وتتبنى إعمال العاطفة وتبتعد عن القول الشجاع لتتبنى الانطباع العام الشكلي وتزيف الحقائق للقائد ومن ثم تأليهه حتى يتفرعن!

لو أن هؤلاء الذين نشروا اليوم على الملأ، في الصحف أو المحطات التلفزيونية، سوءات القذافي وحسني مبارك وعلي صالح، ومن قبلهم صدام حسين، وهم كانوا قريبين منهم، أو أنهم فعلوا ذلك من قبلُ، لما دخلنا في الطريق المسدود.. الحاشية أو العاملون معهم أو من هم في موقع القرار المؤثر، لو قال هؤلاء ما يقولونه اليوم لما حدث - في رأيي - أي ربيع للعرب، والنظرية معكوسة أيضا، فأينما وجد رجال شجعان يقولون للرئيس - أيا من كان - رأيهم بصراحة في ما يفعل أو يفكر في الشأن العام، لاستمر في كرسيه أكثر، وتكيف مع الجديد المطلوب من شعبه وأيضا أبعد شعبه عن الهزات القاتلة التي قد تؤدي – كما حصل – إلى تفكيك الأوطان وتشريد الشعوب.

ليست النظرية جديدة، فقد أشار إليها ابن خلدون في إشارته لرجال البلاط في زمانه وقبل زمانه، الذين يسوقون «الظلم» في عين الظالم ويمنعون «العدل» لمن يحتاج العدل، فتنهار الممالك، وكلما كان هناك أناس يقولون للمخطئ في كرسي الإدارة والحكم إنه مخطئ قلت أخطاؤه وقل حب التشفي فيه، ولنا في التاريخ الحديث والمعاصر الكثير من الدروس التي تؤيد هذا الحكم السياسي، سواء في بلادنا العربية أو في بلاد أخرى، أي كلما كانت هناك فسحة من الحرية في نقد أعمال الحاكم (رئيسا أو ملكا أو وزيرا) كان التيار المضاد له، حتى لو ترك الحكم، أقل زخما وحنقا.

قيل الكثير في الملك فاروق، بعضه صحيح وبعضه غير ذلك، لكنه خرج من بلاده بلا محاكمة وبلا شنق أو قتل! وخرج عدد من رؤساء الجمهورية في لبنان، لكن أحدا منهم – على سوأة البعض – لم يقدَّم إلى المحاكمة أو تعرض للشنق! فالمعادلة صحيحة في جانب كبير منها، كلما استمع الحاكم إلى نبض شعبه قلَّ الحنق عليه، والعكس صحيح.

يأتي هنا دور «الإنتوراج»، الذي أصبح أكثر وأكثر التصاقا بالمصلحة الذاتية، وبالتالي التبرير للحاكم ولكل ما يفعل، ثم ما إن يسقط ذلك الحاكم حتى تظهر إلى العلن بطولات لم تكن معروفة ومواقف كانت سرية في ردع الحاكم وتبصيره. عجيب هذا السيل من التصريحات والمقابلات والكتب التي انهارت علينا من كل حدب وصوب، وتاريخ «ربيع العرب» لم يتجاوز العام فقط، ترى ماذا سيقول لنا آخرون ما زالوا يسطرون الصفحات تلو الصفحات عن «بطولاتهم» وعن «جهل» و«فراغ» وقلة «تبصر» في القادة السابقين؟! ربما نحتاج إلى جيل كامل لغربلة هذا الهراء وتبيان الصالح والطالح منه.

تقاعد «الإنتوراج» عن البوح بما يجب البوح به، وتزلفهم المرضي، هما السبب الرئيسي في خيبات الأمل المنتشرة اليوم من نتائج «ربيع العرب»؛ لأن الاحتقان الذي أسهمت فيه جماعات «الإنتوراج» أنتج ثورات ليس لها رأس، تعرف ما لا تريد، لكنها لا تعرف على وجه الدقة ما تريد، فوقع الجميع في انفجار لم يُنتج حلولا صائبة، أنتج فقط من الشكل ما يقود في الظن إلى احتقان جديد بدأ يتكون؛ حيث بدأت النخبة الجديدة حفلة تكميم الأفواه وتسمية كل من له رأي مضاد إما بأنه «فلول» من العصر السابق، وإما أنه «متعاون مع الغرب» و«خارجي»، بل نصبت المحاكم من أجل ذلك، اللافت أن هناك محاكم تحاكم رجال النظام السابق، وبجانبها محاكم تحاكم الرجال الذين خرجوا بصدور مفتوحة ضد ذاك الحاكم نفسه بالقول أو بالفعل.

الشق واسع في ممارساتنا اليومية في تعاملنا مع جوهر الديمقراطية، نفرغها من محتواها كما فرغنا التعليم الذي اعتمدناه كتعليم تلقيني يفرغ الرؤوس من العقول والتفكير المستقل السليم والقدرة على الحكم على الأشياء دون السير في القطيع الوطني أو الديني أو غيرهما من قوافل سير القطعان!

آخر الكلام

أعداء المرأة العربية أربعة: المجتمع البطريركي، الرجال ذوو الإحساس بالنقص، التفسير الخاطئ للدين، وأخيرا المرأة ضد المرأة!