فوبيا الأجنبي

TT

تناولت في مقالتي السابقة موضوع الهلع من التدخل الأجنبي. لقد روج هذا الهلع ساستنا وزعماؤنا وغرسوه في أنفسنا ليستطيعوا مواصلة قمعهم واستهتارهم بحقوق الإنسان، كما نرى الآن في سوريا، دون خوف من تدخل أجنبي يكف أيديهم.

هناك هلع آخر ينصب على القواعد الأجنبية. اعتدنا على النظر لهذه القواعد كشوكة في أعيننا وانتقاص من السيادة الوطنية. هذا وهم آخر. هناك قواعد أجنبية في معظم البلدان. هناك حاليا قواعد بريطانية في ألمانيا وقواعد أميركية في بريطانيا واليابان. لروسيا قاعدة بحرية في سوريا، ولبريطانيا وأميركا قواعد عسكرية وجوية وبحرية في معظم دول العالم الثالث. بل يعتمد اقتصاد بعض هذه الدول على الأجرة التي تتسلمها من إيجار هذه القواعد ومن مشترياتها وخدماتها. ولم يؤثر وجود هذه القواعد على سياسة هذه الدول أو يمس سيادتها. قاعدة غوانتانامو الأميركية في جزيرة كوبا خير مثال على ما أقول. لم تستعملها الولايات المتحدة في حماية عميلها الرئيس بابتستا وتركت كاسترو يغزو الجزيرة ويزيحه ويقيم حكما شيوعيا فيها. وحتى في أزمة الصواريخ السوفياتية لم تحاول واشنطن استعمال القاعدة في منع دخول هذه الصواريخ.

تحتاج القوى الكبرى لمثل هذه القواعد لأغراض استراتيجية لا علاقة لها بالنظام القائم أو سيادة الدولة. احتاج الإنجليز قاعدة السويس في مصر، والحبانية في العراق، وعدن في اليمن لحماية طريق الهند. وليس للتدخل في سياسة البلد. ثار العراقيون ضد حكومتهم الموالية لبريطانيا وذبحوا رجالها ولم يتدخل الإنجليز لحمايتهم. ثم طلبوا منهم الجلاء من الحبانية فجمعوا عفشهم وخرجوا. تدخل الجيش البريطاني مرة واحدة بسياسة مصر، وكان تدخلا لصالح الوطنيين. فعندما أوشك الألمان على اجتياح مصر وارتبك الإنجليز ذعرا، بعثوا بدباباتهم وأحاطوا قصر الملك وأجبروه على إسقاط الحكومة الموالية للإنجليز والبلاط وتسليم الحكم للزعيم الوطني النحاس باشا لتهدئة مشاعر الشعب.

بيد أن شعار «الجلاء» ظل مطلبا وطنيا كلف مصر كثيرا. شغلوا أنفسهم به على حساب الأهداف الوطنية والاجتماعية الملحة. استطاع ناصر أخيرا إزالة هذه القاعدة. وبإزالتها فتح الطريق لإسرائيل لتغزو مصر وتحتل سيناء مرتين. عاد وكرر الغلطة في 1967، عندما طالب الأمم المتحدة بسحب عساكرها من الحدود مع إسرائيل. ما إن تم ذلك حتى هجم الإسرائيليون على مصر وحلت «النكسة».

وقع العراق بنفس الخطأ بجلاء الإنجليز من قاعدة الشعيبة في البصرة. فما كان للشاه أن يضغط على العراق ويحصل على مرامه في شط العرب لو أن الإنجليز كانوا على ضفافه. وبالتالي لما جرت مصيبة الحرب مع إيران ثم الكويت.

الديماغوجية الوطنجية كلفتنا كثيرا يا سادة. ولكنني سأغيظ الوطنجية ومدعي الدين ثانية عندما أقول إن وجود قواعد أجنبية في ديارنا يعطينا أحسن وأرخص وأسلم وسيلة للدفاع عن سيادتنا وحدودنا. يعطينا العراق أحسن دليل على ما أقول. فلو أن الإنجليز بقوا في الحبانية والشعيبة لما وقع العراق في قبضة إيران، ولا فقد مليون شاب في حروب طائشة، ولا أنفق الملايين على جيش لم يجن منه غير الأذى.