«مجتمع جديد أو الكارثة»

TT

هذا عنوان كتاب للمفكر الكبير أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود، أستاذ الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة لمدة عقود، الذي أثرى المكتبة العربية بعشرات الكتب ومئات المقالات القيمة منذ أن بدأ الكتابة في ثلاثينات القرن الماضي واستمر إلى أن لقي ربه في تسعينات القرن العشرين.

وقد أسعدني الحظ بأن أقترب من فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة الدكتور زكي نجيب - كما سماه العقاد - عندما كان معارا إلى جامعة الكويت في أعقاب افتتاحها، وشاء حظي الحسن أن أكون معارا في الفترة نفسها إلى الجامعة نفسها، مع الفارق الكبير في الدرجة العلمية وفي مستوى النضج ومستوى العطاء المعرفي.. أين كنت أنا وأين كان زكي نجيب محمود؟!

ثم شاء الحظ أن أسكن معه في العمارة نفسها بعد أن عدنا من الإعارة لجامعة الكويت، وأدى ذلك إلى ازدياد علاقتنا توثقا.

وكانت الجلسات معه ثرية وممتعة وعميقة في الموضوعات التي تناولها.

ولست أدري كم مرة أمد يدي لأمسك بهذا الكتاب من جديد.. هل هي الثالثة أم الرابعة؟ لست أدري.

والكتاب يدور أساسا حول حال المجتمع العربي ومدى تخلفه عن حضارة العالم المعاصر، وكيف أنه لا نجاة له إلا بالرجوع إلى سلطان العقل وحكم المنطق. وكأنه يردد قول أبي العلاء المعري:

كذب الظنُّ لا إمام سوى العقـ

ـل مشيرا في صبحه والمساء

ويرى الأستاذ الكبير أن النهضة الحديثة قد بدأت عندما انطلقت الدعوة إلى يقظة العقل وثقافة التنوير ورفض الخرافة التي تربط النتائج بغير أسبابها.

والدعوة إلى إعمال حكم العقل هي التي تؤدي إلى ربط النتائج بأسبابها الصحيحة على نحو ما دعا إليه في بداية القرن الماضي الإمام محمد عبده (1849 - 1905) الذي كان إمام علماء المسلمين وأكثرهم استنارة واحتراما للعقل وبعدا عن الخرافة. وقد اجتهد فضيلة الإمام محمد عبده في توضيح العقائد الأساسية للإسلام توضيحا يبين استنادها إلى منطق العقل، وذلك حين جعل الأساس الأول للعقيدة الإسلامية هو «النظر العقلي» أو تحكيم العقل. ويرى الإمام محمد عبده أن النظر العقلي هو وحده وسيلة الإيمان الصحيح.. انظر إلى قوله المأثور: «إن الإسلام يقاضينا إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن لسلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟».

والذي يريد أن يقوله الإمام محمد عبده ويؤكده الدكتور زكي نجيب محمود هو أن الإسلام إذ أمرنا باحترام العقل، فإن الإسلام نفسه لا يمكن أن يبتعد عن حكم العقل أو أن يأمر بما يخالف منطق العقل.

وإذا كان ذلك كذلك - كما يقول المناطقة وتردد أحكام القضاة - فإنه إذا تعارض نص شرعي في ظاهره مع حكم العقل، فإن الواجب هو تغليب العقل على ظاهر النص. يقول الإمام محمد عبده بوضوح: «إذا تعارض العقل وظاهر الشرع أخذنا بما دل عليه العقل».

وليس ذلك ببعيد عما قاله الإمام الغزالي من أننا إذا وجدنا نصا من نصوص الشرع، لا يتفق معناه الظاهر مع حكم العقل، علمنا أنه لا بد من أن يكون لذلك النص معنى غير معناه الظاهر، ووجب علينا أن نحاول تأويله تأويلا يخرج منه المعنى المقبول عقلا، وهاك قول الغزالي بنصه: «إن لنا معيارا في التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك».

هذا ما قاله الإمام الغزالي مع أنه لم يكن من الذين يحبون الفلسفة والتفلسف، ولكنه مع ذلك لم يكن يستطيع إنكار حكم العقل أو إهداره.

هذا هو ما يقوله ويدعو إليه السلف الصالح.

ابن رشد على النقيض من الغزالي، ولكن كلاهما يحترم حكم العقل ويعليه على ظاهر النص الشرعي إذا كان ظاهر النص يخالف حكم العقل.

ما أشد حاجتنا في هذه الأيام إلى النظر العقلي وإلى العلم، ولن أمل من تكرار أن نهضة الشعوب لا تقوم إلا على قدمين اثنتين، بغيرهما لا تكون هناك نهضة، وهاتان القدمان هما أولا سلطان العقل وما يؤدي إليه ذلك من بحث علمي واجتهاد، وثانيا سيادة القانون بكل ما تعنيه من مساواة بين المواطنين واستقلال كامل للقضاء.

والربيع العربي لن يكون ربيعا حقيقيا إذا لم يعلِ حكم العقل وإذا لم يؤكد سيادة القانون..

والله المستعان.