أيتام الفصول الأربعة!

TT

احتفى الفلسطينيون بحذر ظاهر بـ«الربيع العربي».. الاحتفاء ببساطة، دافعه مجاراة للأشقاء الذين حققوا أمرا شبيها بالمعجزة، أي الإطاحة بثلاثة زعماء عرفوا بقوة السيطرة، وطول أمد السلطة، وفاعلية الأجهزة الأمنية.

أما الحذر فسببه أنهم هم أصحاب تجربة نابضة عنوانها كيف تبدأ ثورة وإلى ماذا تؤول؟

وإذا كانت تجربة الفلسطينيين مع ثوراتهم، لم تنته بعد إلى خلاصات حاسمة، إلا أن الأثمان التي دفعت في سياق هذه الثورات كانت باهظة جدا، أما خلاصاتها فلا تزال غامضة. غير أن المقارنة بين «الربيع العربي» والثورات الفلسطينية يمكن أن تكون منطقية من زاوية عامة، ربما تكون تبسيطا هي فكرة الثورة وأحلامها وإنجازاتها، أما إذا أردنا التعمق في الأمر أكثر فإننا نكتشف عدم منطقية المقارنة من جوانب أخرى عديدة، واضعين في الاعتبار الخصائص المختلفة لكل ثورة، ثم لا مناص من التنبه إلى أن ثورة ضد الاحتلال الأجنبي تختلف كثيرا عن ثورة للإطاحة بزعيم محلي، أو نظام فقد أسباب استمراره والرهان عليه.

الحذر الفلسطيني من «الربيع العربي» مصدره المقياس الخاص الذي به يقيم الفلسطيني الأحداث الكبرى، وهذا المقياس يتركز على أمر واحد أحدده بصيغة تساؤل شعبي: ترى ما هي انعكاسات هذا الحدث على القضية الفلسطينية؟ وما دام الفلسطينيون لم ينتهوا من أمر الاحتلال وفقدان التجسيد الكياني للهوية السياسية على الأرض، فسيظل هذا المقياس قيد العمل من دون أن يحل محله أو يوازيه أو يقترب منه مقياس آخر.

في هذا السياق ووفق هذا المقياس، انتبه الفلسطينيون إلى مصر أولا وبدرجة أقل ليبيا وبدرجة أقل تونس وبدرجة تفوق كل الاهتمامات الأخرى يجري انتباه قوي إلى سوريا.

ولكل عنوان من هذه العناوين سبب خاص غير السبب العام الذي يدعو إلى الانتباه.. فبالنسبة إلى تونس فإن تراث العلاقة بين الفلسطينيين والتوانسة فيه من الثراء والعمق ما يشد الانتباه ويرفع من وتيرة التفاعل، ذلك أن أفضل لجوء سياسي للفلسطينيين كان في تونس ولم يكن لجوءا سياسيا فحسب يقاس بحجم التسهيلات وقد كانت في الواقع كثيرة ودافئة وقليلة الإشكالات، بل أفرز هذا اللجوء جيلا فلسطينيا ترعرع في تونس ومصاهرة واسعة النطاق بين مهاجري القرن العشرين وأنصارهم، لذا تابع الفلسطينيون ثورة تونس كما لو أنهم يتابعون شيئا يخصهم وحمدوا الله على أن حليفهم زين العابدين بن علي لم يتجاسر كثيرا على دم أصهارهم، ولو أنه تجاسر في الأيام الأولى بما يؤسف له حقا.

وقبل أن أعرج على مصر مع أنها الثانية زمنيا بعد تونس، فقد اهتم الفلسطينيون بما حدث في ليبيا ووفق ثقافتهم الوطنية والقومية كادوا يتمزقون وهم يرون تدخل «الأطلسي» وقد صار مطلبا شعبيا وخافوا على مصير الآلاف المؤلفة من بني جلدتهم الذين يعيشون في ليبيا ويرتزقون من خيراتها، وبعضهم - ولعلهم أكثر - أمضى عقودا في هذا البلد العربي اللافت للنظر، ومجتمعه وشعبه الشقيق.

أما مصر، فهنا تتحد خصائص مع سوريا وتختلف خصائص أخرى، ما يتحد فيه الشقيقان المصري والسوري هو الجوار الأقرب، والتأثير الأكثر مباشرة وفاعلية في المصير الفلسطيني وتراث اللجوء الطويل الأمد في مصر عبر بوابة غزة وفي سوريا عبر بوابات فلسطينية ولبنانية مع خصوصية الحقبة اللبنانية في التاريخ الفلسطيني الحديث، حيث كانت مصر بدرجة أقل وسوريا بدرجة أكثر تفصيلا على صلة مباشرة بكل الأحداث والوقائع التي عاشها الفلسطينيون على أرض لبنان في ما يشبه صراع بقاء طويل الأمد وفي غاية الفظاظة والقسوة، من دون نكران أن في لبنان من أعطى الفلسطينيين فوق طاقته فقاتل معهم من أجل أحلامهم وقاتل دفاعا عنهم من أجل تجسيد الانتماء اللبناني الأخلاقي والقومي، وحتى الحزبي.

تراجع الاهتمام الفلسطيني بشأن الملف التونسي والليبي، إلا أنه ظل طازجا ومتناوبا ومتفاعلا إزاء الملف المصري والملف السوري.

في ما يتصل بالملف المصري فإن أمرا جديدا زاد من الاهتمام الفلسطيني التفصيلي بهذا الملف، وهو بالضبط الإسلام السياسي، الذي سبق أن عايشه الفلسطيني من خلال حماس، والفوز الكاسح في الانتخابات واحتلال سلطة أوسلو في غزة والتأثير على مساحاتها الضيقة في الضفة. إن ذات الإسلام السياسي يجلس الآن على مقاعد الحزب الوطني في مصر، حيث تماثل «فتح» هذا الحزب المكسور، من حيث الاستئثار بسلطة القرار لعقود من الزمن، فإلى أين سيفضي هذا الاحتلال الصاعق من قبل الإسلام السياسي للمؤسسة التشريعية الأولى والأهم في مصر؟ وإلى أي مدى ستتأثر مصر الكبرى في خياراتها التي هي في ذات الوقت مؤثرة في خيارات غيرها على نحو كبير؟ ثم أين ستكون القضية الفلسطينية ليس من الاهتمام وإنما من خلال السياسات والسلوك؟.. هل سنرى طريقة إسلامية في تفسير وتنفيذ اتفاقات كامب ديفيد، أم نرى ممالأة لفريق فلسطيني على حساب فريق آخر بحكم الهوى الآيديولوجي والسياسي والسلوكي؟ ثم هل نرى حياة سياسية مصرية ترفع شعار «دعونا نعالج شؤوننا الخاصة»، أو «اسمحوا لنا بتثبيت أوضاعنا الجديدة ولا ترهقونا بالطلبات والمواقف والاستحقاقات»؟ وفي بلد مثل مصر وبحجمها، فالأمر في أي اتجاه جديد لن يحسب بالقرارات والخيارات وإنما بالإمكانات والقدرات، وعلينا هنا منطقيا أن ننتظر طويلا بل طويلا جدا كي نجني كفلسطينيين ثمار التغيير حين تتبلور.

الفلسطيني حين يسأل عن التغيير في مصر تحديدا.. يقول لك إن الربيع سيحتاج إلى وقت طويل كي ينتج أزهاره الفلسطينية، عبارة «وقت طويل» ربما تكون هي المساحة الزمنية الأخطر التي يعاني منها الفلسطيني الآن حيث المدى الرحب للحركة الإسرائيلية على الأرض، إذ مهما فعلت إسرائيل في هذا المدى الزمني المتواصل الآن فلن تجد من يلوم أو يندد أو يعترض، وبكل أسى أقول لن تجد أصلا من ينتبه!

أما الملف السوري الذي ما زال مفتوحا على سلسلة من المآسي المركبة والمتوالدة، فإن قلق الفلسطيني يزداد كلما اقتربت ألسنة النار من ذويهم في المخيمات والمدن والقرى، ويزداد قلق الفلسطينيين لمعرفتهم أن في سوريا الشعب والنظام تغلغلا فلسطينيا اجتماعيا وحزبيا وثقافيا، وقد لا تصدق حين يقال لك إن التغلغل الفلسطيني بلغ درجة لم يبلغها في أي مجتمع آخر حتى على صعيد الفن والتعليم والجيش والميليشيات. ويكفي أن نعرف أن مخيم «اليرموك» الفلسطيني مثلا أضحى بعد ستة عقود من إنشائه نقطة في بحر مجتمع سوري وليس مخيما ناصع الفلسطينية واللجوء.. وعليه بوسعك أن تقيس خصائص ومقومات الوجود الفلسطيني في سوريا، وعليك أن تستنتج منطقيا حجم الأذى الذي يحيط بالظاهرة الفلسطينية جراء غموض الخلاصات في ما يحدث على أرض هذا البلد المميز، وبالنسبة للفلسطينيين المميز جدا.

إن القلق يستبد بالفلسطينيين وهم يتابعون تطورات الأحداث في المشهد المصري المتسارع، والمشهد السوري الراشح بالدم والمفتوح على مصراعيه نحو الخطر والغموض، ففلسطين هي هناك، ماض وحاضر ومستقبل، وإن كان في قلوب الفلسطينيين أمنية أن يزهر «الربيع العربي» وينتج ثمارا عربية وفلسطينية مشتهاة، فإن في وعيهم وتجربتهم ودروس مأساتهم ما يدعو إلى القلق، لقد وصف أحد الكتاب العالميين الفلسطينيين في زمن «الربيع العربي» بأنهم أيتام هذا الفصل التاريخي، وأخشى أن أقول: من هو يتيم في هذا الفصل فهو يتيم الفصول الأربعة.. حتى إشعار آخر!