حلبجة.. الربيع الكيماوي

TT

في يوم 16 مارس (آذار) عام 1988 كان الربيع يشق طريقه في مدن العراق التي اعتادت أن تلبس الأخضر، واعتادت الأزهار أن تتنفس صباحا عبق الحياة برفقة العصافير التي تسحب خيوط الشمس بمنقارها.. لكن في هذا اليوم لم يكن ثمة ربيع، وليست هنالك عصافير، وحتى الشمس أشاحت بخيوطها بعيدا عن مدينة عراقية اسمها «حَلَبْجَة»، كانت تضم كل الربيع بين أرضها الطيبة.

في مدينة حلبجة كان المشهد مختلفا في يوم 16 مارس عام 1988.. في ذلك اليوم، ارتكب النظام القمعي الشوفيني في العراق جريمة بشعة لا مثيل لها بحق أبناء شعبنا العراقي في مدينة حلبجة عبر قصفها بالأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا.

وهذه الجريمة مرت في حينها حتى على المجتمع الدولي ولم ينظر إليها بأبعادها الإنسانية وتأثيراتها على سكان المدينة، ولم ينظر لها من الناحية القانونية بوصفها جريمة بشعة ارتكبها النظام البعثي القمعي ضد الشعب؛ بل تجاوزها العالم ولم يلتفت لها بحكم العلاقات والمصالح الدولية وارتباطات النظام الشوفيني آنذاك بالدول التي زودته بهذه الأسلحة المحرمة دوليا وهي تدرك جيدا أنه سيستخدمها ضد الشعب العراقي بحكم طبيعة هذا النظام المارق وسلوكياته التي تبيح له استخدام ما يتيسر تحت يديه لقمع الشعب ولن يتردد لحظة واحدة في ذلك.

والنظام البائد طالما استخدم العقاب الجماعي ضد الناس.. ضد المدن.. ضد الشعب. كان ينظر لكل الأشياء على أنها عدو له، ولم يفكر أحد من أزلامه لحظة واحدة في أن ما أقدم عليه في حلبجة قد أودى بحياة آلاف الناس؛ معظمهم من الأطفال والنساء.

وحلبجة المدينة نهضت لتروي قصة استشهادها على يد الطاغية.. نهضت بعد أن ضمدت جراحاتها.. نهضت لتحكي قصة شهادتها وتروي لكل العالم عن الدخان الأصفر والروائح الكريهة والغازات التي ملأت أجواءها الربيعية الجميلة وحولتها لمدينة أموات لا حياة فيها.

لم تكن قصة حلبجة معروفة للعالم لحظة حدوثها أو بعد ذلك بعام أو عامين، لكن هذه المدينة بدأت تروي قصتها منذ نهاية عام 1991، فتجول أبناؤها المصابون بفعل الغازات في كل مدن العالم ليحكوا للشرفاء عن هذه الجريمة، وليجدوا العلاج المناسب لما أصابهم جراء هذه الجريمة التي روعت العالم بمآسيها. كان العالم مصدوما وهو يكتشف هذه الوقائع التي ساهمت بعض الدول فيها بطريقة أو بأخرى؛ منها التي زودت نظام صدام بالغاز السام والقنابل المدمرة، ومنها التي سكتت، ومنها التي أشاحت بوجهها عن رؤية شعب يموت ومدينة تغتال في عز ربيعها.

اليوم حلبجة عروس العراق.. ربيع العراق، بعد أن اقتصت من المجرمين؛ ليس تشفيا أو انتقاما، بقدر ما هو قصاص عادل من مجرمين لم يترددوا لحظة واحدة في أن يصدروا أوامرهم بإعدام مدينة بسكانها وأشجارها وعصافيرها وورودها وكأنهم لا يحملون حواسا تشم وترى وتسمع، فكانوا يستحقون أن يعاقبوا عدة مرات لأنهم ارتكبوا في حلبجة أكثر من جريمة.

اليوم تزهو هذه المدينة بسواعد أبنائها وهي ترى العراق بكامله تحرر من قبضة الطاغية ويسير قدما في بناء دولة المواطنة بعد أن تهدمت دولة الخوف.. وطن يعيش فيه الجميع متحابين بعد أن فرقهم الطاغية وأزلامه فرقا وقوميات ومذاهب، ووضع الحواجز النفسية بينهم. حلبجة اليوم تتغنى بالعراق كما يتغنى العراق بها، ضمدت جراحاتها، وقرأت الفاتحة على شهدائها، وها هي اليوم تؤكد حقيقة أزلية مفادها أن المدن أمهات باقيات. لم يشعر أي طفل في حلبجة بأنه فقد أمه أو أباه بغازات صدام، الجميع كان ينظر لحلبجة على أنها أم حنون، ولم يشعروا باليتم ما دامت مدينتهم لم تمت.. المدن لا تموت؛ فقط الطغاة يذهبون إلى مزبلة التاريخ، ولكن المدن تظل هي التاريخ، وتظل هي عنوان الحياة.

في ذكرى حلبجة اليوم، علينا أن نتعلم الدروس، وأن نؤمن وطننا وشعبنا بأن لا نسمح بعودة الديكتاتوريات تحت أي تسمية كانت، كي يظل الربيع منتشرا في مدننا التي دفعت خيرة شبابها ثمنا للحرية التي نتطلع جميعا أن نرى راياتها ترفرف في بلادنا التي آن لها أن تنعم بالحياة الحرة الكريمة، وأن تغادر سلم الدول الضعيفة تنمويا، وترقى بشعب العراق للعلا.