فهم الأطباء.. لما يقولون ويفعلون

TT

أبسط شيء يتوقعه الإنسان غير المتخصص في الشأن الطبي أنه حينما يقول له الطبيب شيئا ما، يكون كلام هذا الطبيب صحيحا علميا، وأن الطبيب يفهم بدقة معنى ما يقوله لمريضه أو لأي شخص آخر يسأله. لكن ماذا لو بدأ الطبيب يتحدث بكل ثقة إلى مريضه بكلام طبي ليس فقط لا يفهمه المريض بل الطبيب نفسه لا يفهمه ولا يعرف معناه ولا صحة مدلولاته؟!

دعونا نراجع نتائج هذه الدراسة الطبية المثيرة للدهشة بحق والصادرة في الولايات المتحدة ضمن عدد الخامس من مارس (آذار) الماضي لمجلة «مدونات الطب الباطني» (Annals of Internal Medicine). وقبل المراجعة علينا ملاحظة أن من وسائل الطب هناك ما يُعرف بمسح الفحص الإحصائي للاكتشاف المبكر للأمراض السرطانية (cancer screening)، وهناك إحصائيات طبية تصدر حول هذه النوعية من فحوصات المسح الإحصائي الذي يجرى لعموم الناس، وهناك معان طبية محددة دلت عليها نتائج الدراسات الطبية لإجراء هذه الفحوصات وجدواها وتفسير مدلولات أرقامها.

والدراسة الطبية الحديثة شملت أكثر من 400 طبيب يعملون في الولايات المتحدة، وتبين أن ثلاثة أرباعهم لا يدركون معنى أبسط المعلومات الإحصائية عن الأمراض السرطانية، وهو ما يعني تلقائيا أن لديهم حماسة غير ثابتة الجدوى وغير مبنية على أسس طبية سليمة، وذات احتمالات للتسبب في إجراء فحوصات خاطئة، وفق ما علق به الباحثون الذين قاموا بإجراء الدراسة. كما أن نصف هؤلاء الأطباء المشمولين في الدراسة، والعاملين في الولايات المتحدة، يعتقدون أن الاكتشاف المبكر للمرض السرطاني يعني تلقائيا القدرة على إنقاذ حياة الناس بشكل أكبر، وهو اعتقاد ربما شائع بين عامة الناس لكنه في الواقع الطبي غير صحيح البتة على إطلاقه.

وعلق الدكتور أوتس براولي، المسؤول الطبي الرئيسي في المجمع الأميركي للسرطان، بالقول «هذا بالفعل مخيب للآمال، لأن أحد الأمور التي نكرر قولها باستمرار في حديثنا إلى المريض هو: ناقش هذا الأمر مع طبيبك. وما دلت عليه نتائج هذه الدراسة هو أن طبيبك بالفعل لا يفقه شيئا!».

والدكتور براولي لم يشارك في هذه الدراسة، وأضاف معلقا عليها بالقول إن «تدني مهارات وحرفية فهم الإحصائيات الطبية ونتائجها بين أوساط الأطباء هو أحد أسباب وجود خلل واختلافات في ممارسات الأطباء لإجراءات فحوصات سرطان البروستاتا، وهو ما نلحظ أنه أصبح شائعا بين الأطباء». وأوضح أن «عدم فهم الطبيب للإحصائيات الطبية مؤثر بشكل سلبي على طاقة الجهود في برامج الفحوصات الطبية، وللأسف تعلم الكثير من الأطباء أن أفضل طريقة للتعامل مع الأمراض السرطانية هي اكتشاف وجودها في وقت مبكر، لكن ما نعرفه اليوم بشكل مستمر من نتائج البحوث والدراسات حول السرطان يقول لنا صراحة إن هذا غير صحيح». وللتوضيح، فإن إجراء فحوصات المسح الإحصائي قد يساعد في اكتشاف إصابة إنسان ما بالسرطان في البروستاتا في وقت مبكر، وهو ما يعني تلقائيا إطالة وارتفاع «معدلات البقاء على قيد الحياة» (survival rates)، لأن تشخيص الإصابة بالسرطان يعني أن الشخص يعيش وقتا أطول مما لو أن نفس الشخص بدأ في مراجعة الطبيب من حين بدء شعوره وإحساسه بأعراض مرضية نتيجة للإصابة السرطانية. وبداهة ستكون «مدة البقاء حيا» في حالة الاكتشاف المبكر للسرطان، وبلا أدنى شك، أطول من «مدة البقاء حيا» إذا تم اكتشاف الإصابة بعد بدء ظهور الأعراض.

ولمساعدة الناس على الفهم، فإن استخدام مصطلح «معدلات البقاء على قيد الحياة» (survival rates) هو طريقة خاطئة للوصف، وفق ما يؤكده الدكتور ستيف ولوشين، من كلية دارماوث في نيوهامشير بالولايات المتحدة. وأضاف أن «معدلات الوفيات» (death rates) المستخلصة من نتائج الدراسات الطبية هي الوسيلة الوحيدة المعتمد عليها بواقعية للحكم في تلك الحالات على جدوى إجراء فحوصات المسح الإحصائي، ولكن للأسف فإن كثيرا من الأطباء في بعض المؤسسات الطبية والبرامج الصحية يفضلون استخدام «معدلات البقاء على قيد الحياة» لأنها تبدوا أكثر جاذبية وتفاؤلا.

وفي الدراسة حينما سئل الأطباء المشاركون فيها، وجدوا أنهم يفضلون نصيحة مراجعيهم بإجراء فحص ما ثبت أنه يزيد من مدة البقاء حيا خلال السنوات الخمس القادمة من عمرهم من نسبة 70 في المائة إلى 99 في المائة، بالمقارنة مع فحص آخر أهم وأكثر فائدة ويقلل من نسبة «معدلات الوفيات» من 2 لكل 1000 من الناس إلى 1.6 لكل 1000 منهم. وهو ما علقت الدكتورة فيرجينا موير، المشاركة في البرامج الحكومية لخدمات الوقاية الطبية بالولايات المتحدة، عليه بالقول «الأطباء من الواضح أنهم لا يفهمون كيف يترجمون ويفسرون إحصائيات نتائج دراسات المسح الإحصائي للأمراض السرطانية (cancer screening statistics)، والاعتماد عليهم في تفهيم نتائجها للمرضى هو تساهل مبالغ فيه».

إن التعليم المستمر للأطباء وملاحظة نتائج تقييم مدى فهمهم لتطورات الطب أو حتى لأبسط قواعده إحدى ضرورات التأكد من مدى توافر عناصر سلامة معالجة المريض وسلامة صحة المعلومات التي تقال للمريض.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]