بعد أن تسكت المدافع.. ما هو مستقبل سوريا؟

TT

سيأتي يوم - قرب أم بعد - تسكت فيه المدافع، ويخنس فيه صوت الرصاص في سوريا.. هذه هي نهايات الحروب في الغالب: إذا صح تسمية ما يجري في سوريا (حربا): بالمعنى العسكري العلمي للمصطلح.

فكيف يمكن تصور مستقبل سوريا بعد أن تسكت المدافع؟

إن الاقتتال الدامي الذي وقع، لا بد أن يكون له أثره في رسم مستقبل سوريا. فالناس هناك لم يموتوا من أجل أن يكون مستقبلهم المأمول مثل حاضرهم الكئيب، أو امتدادا له.

من القدر المتفق عليه بين الأطراف جميعا بشأن تصور مستقبل سوريا: أن تنتهي وصاية حزب البعث على المجتمع والدولة، وهي وصاية مؤصلة دستوريا. وهذا من غرائب السياسة وأنظمة الحكم في عالمنا وعصرنا، إذ كيف يتقبل - عقلا ومصلحة -: أن تزعم شريحة صغيرة من الشعب لنفسها حقا خاصا من دون الناس تبيح لها أن تنص - في الدستور - على أن حزب البعث هو القائد السياسي للمجتمع والدولة؟! (وهل هي كهانة سياسية)؟!

وبالاتفاق على إنهاء هذه الوصاية الديكتاتورية، ينفتح الأفق لأحزاب أخرى تتسابق على الحكم من خلال انتخابات برلمانية (يشترط لنزاهتها أن تخضع لإشراف دولي محايد ونزيه أيضا).

فإذا جرت انتخابات برلمانية بهذه الشروط، فإنه من المستبعد جدا أن يفوز فيها حزب البعث بالأغلبية.

لماذا؟

1- لأنه حزب فشل في الحرب (احتلت الجولان في ظل هيمنته الشاملة)، ثم بقيت محتلة حتى الآن لعجزه التام عن تحريرها.

2- لأنه حزب فشل في السلم أو في الحياة المدنية العامة، فقد كانت سوريا قبل مجيئه مزدهرة تجاريا واقتصاديا، وكان الشعب السوري ينعم - من ثم - برغد العيش، وحلو الحياة، وهي حالات تبددت وتبخرت في ظل حكمه.

3- لأن حزب البعث شريك، بل هو الفاعل الأول لمصائب سوريا جميعا، بما في ذلك مصيبة ما يجري اليوم.

وليس من السلوك السياسي للناس العقلاء المستنيرين: أن يعطوا أصواتهم للفاشلين: في الحرب والسلم!!..

فهل سيعمد النظام إلى إنشاء حزب جديد يخوض به الانتخابات المحتمل إجراؤها؟.. هذه محاولة غير مستبعدة نظريا، بيد أن الشعب السوري يدرك - بوعيه السياسي المعروف -: أن هذه المحاولة ستكون مجرد طلاء سياسي وفكري لكيان قديم مكروه وهو فلول حزب البعث.. أما إذا كانت المحاولة جادة من حيث المضامين والأهداف والأشخاص، فقد يكون لها نصيب ما في نتائج الانتخابات. والمعول في ذلك كله على الوعي الشعبي، أي على مناعته الفكرية والسياسية ضد الاستغلال والالتفاف والابتزاز والتغرير والخداع.

ومما يعزز هذا الوعي: إدراك أن سوريا الجريحة في حاجة إلى الخروج من (بيئة مريضة) إلى (بيئة صحية)، ومناخ صحي يتنفس فيه الناس من خلال أوكسجين نظيف ونقي: سياسي واجتماعي وفكري جديد.

هذا كله، لا يتصور وجوده في ظل أصوات الرصاص، ودوي الدمار. وإنما يتصور بالكف الناجز عن العنف والقتل والتدمير، لا سيما من قبل النظام الذي يملك من القوة والإمكانات ما لا يملكه خصومه بحكم التفاوت في موازين القوى.

وبمناسبة خصوم النظام، أي المعارضة، فإن مستقبل سوريا المشرق - بعون الله - يوجب عليها، أن تسارع إلى إنهاء خلافاتها وصراعاتها التي قادت إلى الانشقاقات المتتابعة في كيانها الأم - كما قيل - وهو (المجلس الوطني).

فهذه الخلافات الحادة في صفوف المعارضة تخدم النظام خدمة عظمى من جهة، وتفقد الناس الثقة بالمعارضة من جهة ثانية، وتدفع مستقبل سوريا إلى حفر الظلام من جهة ثالثة، بحسبان أن المعارضة شريك أو ينبغي أن تكون شريكا قويا وفاعلا في صياغة مستقبل سوريا.. وإلا لماذا تعارض وتناضل؟!

ومهما يكن من أمر، فإن الركائز المعقولة لمستقبل سوريا هي:

أ- كسر احتكار السلطة بصفة نهائية، بمعنى إنهاء أن يكون حزب البعث - وحده - هو القائد السياسي للمجتمع والدولة.. ومما لا ريب فيه أن كسر الاحتكار هذا يوجب إعادة هيكلة الدولة في المجالين الحيويين: المدني والعسكري.

ولا بد من جبهة أو هيئة وطنية مستقلة لإعادة هذه الهيكلة، حيث إن حزب البعث غير مؤتمن على ذلك لأسباب عديدة، على أن يكون للقضاء دوره الفاعل في هذه الهيئة الوطنية.

ب- الحفاظ الجماعي على (وحدة) سوريا: وحدتها الجغرافية والسياسية والسكانية.

ج- التوافق على إنقاذ سوريا من الدمار الذي لحق بها وذلك من خلال برنامج وطني خلاق لـ (إعادة بناء سوريا) في المجالات كافة.

د- ترميم العلاقة مع العالم العربي.

فلقد أصيبت هذه العلاقة بصدوع واسعة وحادة، وبضغائن لا ندري كيف تتحقق النقاهة منها؟.

والحق أننا لا ننظر إلى (قيمة) سوريا ومكانتها من خلال النظام الذي يحكمها اليوم - والذي سيزول في يوم ما -. وإنما ننظر إلى قيمتها ومكانتها عبر التاريخ العربي، والحضارة الإسلامية. فليس ينكر امرؤ- معه عقله وضميره - ما كان لسوريا من أدوار بارزة في بناء الحضارة العربية والإسلامية.

ويقتضي مستقبل سوريا في السياسة الخارجية، خاصة في محيطها العربي، يقتضي إزاحة الرموز التي تسببت في هذا الكم الهائل من الأضغان والحزازات والخلافات الشديدة العاصفة.

نعم. لا بد من إزاحة هذه الرموز لتحل محلها رموز سياسية جديدة لم تكن طرفا في هذه الأضغان والنزاعات، وإلا فإن مستقبل سوريا في الإقليم العربي سيظل شديد الاضطراب، معتكر الظلام.

خلاصة المقال هي: أنه يتوجب وقف إراقة الدماء: اليوم قبل غدا، وأن يبدأ النظام بالخطوة أو الخطوات الأولى في هذا الميدان.. وأن تنتهي - إلى الأبد - وصاية حزب البعث على الدولة السورية.. وأن تهيئ - من ثم - الأجواء النظيفة لانتخابات عامة نظيفة وهي انتخابات ستحرر سوريا - بالتوكيد - من الوصاية الكهنوتية لحزب البعث، وذلك لأسباب عديدة في طليعتها الفشل الموثق في الحرب والسلم.. وأن تنهي المعارضة السورية خلافاتها العابثة وأن تتحد في جبهة واحدة ذات أهداف واضحة، وقيادة نزيهة ومقتدرة وحاصلة على أكبر قدر من الإجماع أو التوافق.. وأن ينظر إلى سوريا من خلال مكانتها العربية الإسلامية الأصيلة لا من خلال نظام حكم البعث.. وأن ترمم العلاقة السورية العربية عبر تدابير ناجعة في مقدمتها إزالة الرموز المتسببة في تأزيم علاقة سوريا مع العالم العربي.