الأحمري وطاعة ولي الأمر وحق الملك الإلهي المقدس

TT

نواصل الحديث هنا حول بقية الملاحظات فيما يخص مفاهيم الدكتور محمد الأحمري حول الحرية وقضايا المواطنة.

إن أعجب ما قاله في لقائه مع علي الظفيري في برنامج «في العمق» والمشار إليه في الحلقة السابقة، وبدافع تسييسي هو أن طاعة ولي الأمر في الفكر السني وبخاصة السلفي، تأثرت برافد مسيحي بريطاني. لم يحدده تماما وإنما اكتفى بالإشارة إلى نشوب صراع بين الملك في بريطانيا والبرلمان، حينما قويت شوكة البرلمان. لأن الملك الذي لم يسمِّه، كان يريد الاستبداد بالسلطة. فتداعت مجموعة من المنافقين - كما سماهم - في الكنيسة إلى القول: طاعة ولي الأمر نهائية وهي من طاعة الله، وطاعته يستمدها من الله مباشرة.

قوله العجيب هذا، هو في رأيه الرافد الثاني، أما الرافد الأول، هو أن الفكر السني، وبخاصة السلفي، تأثر بـ«قضية المواجهة مع فكرة الإمامية حيث نقلوا إلى المجتمع السني والسلفي أفكار الإمامية في تقديس الحاكم». واعتبر هذا التأثر «قضية غزو للمجتمع السلفي بأفكار الإمامية»، وكانت نتيجتها أن «سموها طاعة ولي الأمر وبالغوا فيها بطريقة لم يسبق في الثقافة الإسلامية ولا في الثقافة السنية أن وجدت».

كما اعتبر طاعة ولي الأمر إدخالا للوثنية في الإسلام باسم الشعارات الإسلامية، رغم أنها - كما قال - ليست إسلامية في الأصل. فهذه المسألة - مسألة طاعة ولي الأمر - عنده «إما أن تكون وافدة من المسيحية أو وافدة من طوائف منحرفة».

علي أن أشير إلى أن أقواله هذه ساقها ضمن جمل احتمالية مترددة فهو فيما يتعلق بالرافد المسيحي البريطاني بدأها بجملة قال فيها: هناك فكرة (يقصد بها طاعة ولي الأمر)، لعلها فعلا قادمة من المجتمع في الغرب. وفي جملة ثانية تساءل: هل الطائفة (يقصد بها السلفيين ومن ضمنهم الحنابلة) التي بالغت في طاعة الحاكم أخذت أفكارها من الإسلام (يقصد به الإمامية أو الشيعة الاثني عشرية وليس القرآن) أم أخذتها من الطائفة المسيحية التي واجهت البرلمان في بريطانيا؟ وفي جملة ثالثة تساءل: هل المجموعة (يقصد بها السلفيين) التي بالغت في تعبيد الناس للحكام أخذت من المسيحية (يقصد بها المسيحية عامة) هذا المفهوم أم أخذته من المسيحيين في بريطانيا الذين واجهوا البرلمان أم أنها فعلا بالغت وأخذت من الإمامية المزيد؟ وفي جملة رابعة «توقع» أن طاعة ولي الأمر إما أن تكون وافدة من المسيحية أو من طوائف منحرفة (يقصد بالطوائف المنحرفة الشيعة الاثني عشرية).

أما فيما يتعلق بالرافد الأول، الرافد الشيعي، فلم يسقه ضمن جملة احتمالية وإنما ساقه بجملة قطعية. ولاحقا عند ذكره للرافد المسيحي، تردد - كما يتضح من السطور السابقة - هل هذا الرافد يسبق التأثير المسيحي (المسيحي العام) أم يتلوه؟

وعلي أن أشير أيضا إلى أن الذين - حسب زعمه - تأثروا في مسألة طاعة ولي الأمر برافد مسيحي بريطاني أو مسيحي عام، وبرافد شيعي إمامي يقصد بهم السلفيين والحنابلة وليس الفكر السني عامة. وهذا الأمر تكشفه ثلاث عبارات قالها. ولحسابات بعينها لجأ إلى التعميم وشيء من التخصيص. ومع إدراكي لمقصوده الحقيقي فإني سأتعامل مع ما قاله وفق الصياغة المراوغة التي لجأ هو إليها.

الأقوال التي ساقها جزافا تستند عنده إلى أمر واحد، لا يصح القياس عليه، هو: أن أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانوا يناقشونه ويردون على قوله...

لنتوقف عند أقواله

* يفهم مما قاله أن الزمن الذي تأثر فيه الفكر السني، وبخاصة السلفي، في مسألة طاعة ولي الأمر بالرافد المسيحي البريطاني هو الزمن الذي شهد صعود نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

ومن المقطوع به أن طاعة ولي الأمر مفهوم إسلامي أصيل وليس ناشئا لسبب داخلي أو خارجي في التاريخ الإسلامي. إذ نجد أصله في القرآن وما اختلف فيه المسلمون هو في حدود طاعة ولي الأمر. والمسلمون عندهم ثلاث نظريات سياسية كبرى، وهي: نظرية الخوارج والنظرية الشيعية والنظرية السنية. تختلف كل واحدة منها عن الأخرى.

وطاعة ولي الأمر مفهوم خاص بالإسلام. ولا نجد ما يماثله في الفكر المسيحي وفي تاريخه اللاهوتي والسياسي حتى يصح الافتراض أن الفكر السني، وبخاصة السلفي تأثر به.

وما يختلف الإسلام فيه عن المسيحية على نحو دقيق، من دون خوض في التفاصيل، أن الرئاسة الدينية والرئاسة السياسية كانت بيد الخليفة، ذلك لأن الرسول جمع بينهما. بينما في المسيحية هناك بنيتان مؤسسيتان متمايزتان، هما: الكنيسة والدولة، تكون السلطة العليا والشاملة للأولى.

ونظرية الحق الإلهي للملك هي الفصل الأخير من الشد والجذب والتنازع والصراع ما بين الكنيسة والدولة. وكان لها مسببات لاهوتية وتاريخية مختلفة. وهي من الناحية الدينية والسياسية تمرد وخروج على نظرية السيفين (السيف الروحي والسيف الزمني) التي صاغها برنارد كليرفو في القرن الثاني عشر والتي هي الأخرى فصل من الصراع الطويل ما بين الكهنوت والإمبراطورية منذ أن حضرت المسيحية في السلطة أو تحولت إلى سلطة.

إن الأمر ليس كما صوَّره الأحمري باختزال مشوه مشين. فلقد صوره بأن نزاعا نشب في جلسة برلمانية بين ملك يريد الاستبداد بالسلطة وبرلمان قوي يريد الحد من سلطته، فهب منافقون من الكنيسة لنصرة حق الملك المطلق في السلطة، فقالوا: إن طاعة الملك من طاعة الله، وإنه يستمد سلطته من الله مباشرة..!

يتفق المؤرخون أن نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك في مبتدئها وفي الزمن الذي سادت فيه كانت خطوة تقدمية في التاريخ الأوروبي. فهي ألغت الازدواج الصريح بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، فمنحت الملك أن يحكم بمشيئة الله مباشرة بعد أن كانت هذه المشيئة لا بد أن تمر بواسطة البابا، وهو ما يجعل سلطته هي الأعلى وسلطة الملك أو الإمبراطور هي الأدنى.

أن يكون للملك أو الملوك حق إلهي مثل البابوات أعطى شرعية لانفصالهم عن البابوات الذين كانوا باسم الحق الإلهي - الذي هو حكر عليهم وحدهم - يتدخلون في شؤون الممالك أو الدول السياسية. هذا الانفصال نجم عنه دولة مستقلة سياسيا ودينيا، بكنائسها الوطنية عن حكم البابا. وحصر السلطة ومركزتها في شخوصهم بعد أن كانت تشاركهم فيها الارستقراطيات الإقطاعية التي كانت لها سلطات مطلقة في إقطاعياتها بتفويض إلهي من البابوات. وهذا أدى إلى وحدة في الدولة وأضعف سلطات الأرستقراطيات الإقطاعية.

إن الحق الإلهي للملك كان الخطوة الأولى في الطريق إلى تحديث الدولة وبناء الأمة في أوروبا. فهذا الحق واتجاه الشيع البروتستانتية إلى بناء كنائسها الخاصة كان المرحلة الجنينية لنمو الشعور بالقومية (أو الوطنية) والانتماء للدولة. ومهد لما أصبح يصطلح على تسميته بالمواطنة والدولة القومية. فالبابوية أو الكاثوليكية بطبيعتها كانت عالمية وكانت مناوئة للوطنية أو للقومية، ولا تعترف بالانتماء إلى الأرض وإلى جماعة قومية لغوية ثقافية وإلى دولة ما. فالانتماء مقصور على الكنيسة الجامعة. أي الكنيسة الكاثوليكية والأخوية هي أخوية في الدين. أي أخوية في الكاثوليكية.

كما أن هذا الحق مع نشأة طبقة ثالثة (ثالثة لأنها لا تنتمي إلى طبقة الأرستقراطية الإقطاعية التي ينتمي إليها الملك ولا إلى طبقة الإكليروس) هي البرجوازية ونموها واتساع مقاعدها في البرلمان، ساعد على نحو ما إلى انزياح متدرج من الحق الإلهي، إلى مشاركة إرادة أخرى مع الإرادة الإلهية، وهي إرادة الشعب وموافقته على اختيار العناية الإلهية للملك. هذا الانزياح المتدرج أفضى إلى مرحلة جديدة وهي أن مصدر السلطة هو الشعب وأن أساسها بشري عقلاني وليس إلهيا غيبيا. هذه المرحلة - التي ساهم فيها مثقفون وفلاسفة وموسوعيون - انتهت إلى قطع مع النظام القديم الذي ساد في أوروبا قرونا مديدة.

وكان من بين الاختزال المشين هو وصف رجال دين من الكنيسة في إنجلترا الذين أيدوا حق الملك الإلهي بالسلطة بالنفاق، مع أنهم أيدوا حقه هذا عن قناعة واقتناع وإيمان وتدين. فإن كانوا من الشيع البروتستانتية في ذلك الزمن الذي نفهم من روايته للحادثة أنها حصلت فيه، فهم لا يرضون إلا بملك ينتمي إلى دينهم، بما يمثله هذا الدين من طائفة وكنيسة. وإن كان الملك كاثوليكيا فسينصره الكاثوليك عن اقتناع وتدين لا عن نفاق. فهم لا يرضون إلا بملك كاثوليكي ينتمي إلى كنيسة إنجلترا المنفصلة عن الكنيسة الأم في روما.

إن هذا الوصف غير متسق مع المرحلة التاريخية في الحادثة التي رواها. فرجال الدين ينتمون إلى طبقة الإكليروس. وطبقة الإكليروس من حيث القوة والنفوذ موازية لطبقة الأرستقراطية التي ينتمي إليها الملك. وهم يستمدون قوتهم ونفوذهم من الطبقة التي ينتمون إليها، وبالتالي فهم ليسوا بحاجة إلى نفاق الملك.

خيال وافتراض

* أتخيل عندما زجَّ الأحمري ذلك الوصف في الحادثة التي رواها، أن الظفيري ذكّره بأن مارتن لوثر كان من الداعين إلى إطاعة السلطة المدنية للملوك والأمراء، إطاعة مطلقة، وأتساءل: هل سيتورع عن زجه أيضا في زمرة المنافقين من رجال الدين؟!

قلت أتخيل ولم أقل أفترض. لأن هذا أمر ممتنع وقوعه! فالظفيري - لعلِّة لا نعلمها - اختار أن يكون مماشيا لا محاورا، رغم أن ضيفه كان يقدم إجابات عن قضايا لم يطرحها عليه، للالتفاف - كما قلت سابقا - على أسئلة وجهها إليه، والتهرب من الإجابة عنها.

إن للحق الإلهي المقدس للملوك - كما حاولنا أن نبين - سياقا لاهوتيا وتاريخيا خاصا بالمسيحية. وهذا السياق يختلف كلية عن السياق الديني والتاريخي لمفهوم الطاعة وعلاقة الحاكم بالمحكوم في الإسلام. فالتأثر الذي زعمه الأحمري لا يقوم على أي شاهد أو قرينة أو دليل حتى لو كان ضعيفا، وإنما هو قائم على: «لعلها - أي الفكرة - قادمة من المجتمع في الغرب»، وقائم على تخمين، فهو «يتوقع» أنها إما أن تكون وافدة من المسيحية، أو من طوائف منحرفة. ولقد ساق ادعاءه هذا من أجل أن يماثل طاعة ولي الأمر عند السلفيين بالحق الإلهي المقدس للملوك في أوروبا المسيحية، للحط من شأنها وتهوينها في معتقد السلفيين، ليسهل - من الناحية الدينية - التمرد عليها والخروج عنها. وللغرض السياسي والثوري نفسه ادعى أن طاعة ولي الأمر منقولة عن مفهوم الإمامة عند الشيعة.

من حق الأحمري أن يختار الطريق السياسي الثوري في فهم التاريخ والدين. ومن حقه أيضا أن يعيد النظر في مسألة سياسية دينية، كطاعة ولي الأمر جملة أو على نحو تفصيلي، حيث إن في هذه المسألة سعة، فالسنة أو السلفيون من ضمنهم يختلفون في حدودها لكن ليس من حقه - لغاية تخدم الطريق الذي اختاره - أن يترخّص ويجوِّز لنفسه التلفيق.

الشيعة وروح التقارب

* فلنتغاض برهة عن توجهه العميق والأصلي - وهو توجه إسلامي أصولي - ولنستحضر روح التقارب الإسلامي من الشيعة التي أعلنها في مقاله «خدعة التحليل العقدي» وفي مقال تلاه هو «من حصاد التحليل العقدي» اللذين كتبهما في أثناء حرب تموز وأكدها مقاله «رؤية في المعضلة الشيعية» الذي كتبه بعد مضي فترة من الزمن من كتابته للمقالين السابقين. ونستحضر أيضا الروح الليبرالية التي باح بها بعد فوز أوباما في انتخابات الرئاسة الأميركية، لنستحضر هاتين الروحين اللتين حلّتا به بعد مضي سنوات على عودته للسعودية من أميركا بعيد الحادي عشر من سبتمبر، لنستحضرهما، ونسأل:

هل تتوافق الروح الليبرالية وروح التقارب الإسلامي مع وصف الشيعة بالطائفة المنحرفة؟!

لنفترض أن السنة والسلفيين نقلوا فكرة الإمامة إلى نسيج منظومتهم العقدية بسبب المواجهة مع هذه الفكرة، فهل يتلاءم والروح الليبرالية وروح التقارب الإسلامي، وصف أمر كهذا بـ«الغزو»، غزو المجتمع السلفي، كما قال؟! كيف يكون «غزوا» والسنة والشيعة كانوا يعيشون في مجتمع إسلامي واحد، هو المجتمع العباسي، وفي مدينة واحدة، هي بغداد؟!

التحول إلى التقارب الإسلامي وإلى الليبرالية

* لنأخذ الآن بعين الاعتبار توجهه العميق الأصلي، التوجه الإسلامي المذهبي.

الدكتور محمد الأحمري قبل أن يتحول إلى خطاب التقارب وبعده إلى خطاب أوسع، خطاب الحرية، ينتمي إلى التيار السروري، والتيار السروري أشد أصولية من تيار الإخوان المسلمين، رغم أنه متمخض عنه.

وقد اقتضى منه هذا التحول إلى خطاب التقارب أن يتجه إلى نهج عند الإخوان المسلمين يقوم على تجاوز التمايزات المذهبية والبعد عن الملاحاة العقدية بين الشيعة والسنة، لرص صفوف المسلمين في كتلة سياسية واحدة، تحقيقا لدولة إسلامية موحدة.

كما اقتضى التحول إلى خطاب الحرية مع بقائه على رأس منبر فكري لهذا التيار، وأعني به مجلة «العصر»، أن يأخذ بشيء من فكرة برزت عند المثقفين المسلمين المصلحين بسبب تحدي الثقافة الغربية لثقافة الإسلام والإغضاء من شأنها.

هذه الفكرة هي أن الإسلام في أساسه الذي هو الإسلام الحقيقي، يتضمن كل ما في الحضارة الغربية من أفكار حديثة. ومن هذه الأفكار الحديثة: الحرية وحقوق الإنسان.

وأن يشغف بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» لعبد الرحمن الكواكبي، فيصبح الاستبداد عنده أنظومة تفسيرية شاملة وحصرية يعلل بها كل أمر. ورغم تعلقه بمقولة الكواكبي حول الاستبداد، فإنه لم يذهب مع الكواكبي إلى الحد الذي وصل إليه في إصلاحيته وتجديده الإسلامي.

هذه الفكرة وذلك النهج كان في التيار السروري مدانا ومرفوضا بشدة.

ولأنه أخذ بشيء من فكرة الإسلاميين الإصلاحيين، رأى الأحمري أن الحرية أصل في الإسلام الحقيقي. والذي ألغى هذا الأصل ولم يسمح له بالاستمرار والتطور هو السياسي أو الحاكم في الإسلام، بدءا من معاوية بن أبي سفيان الذي قال عنه إنه صادر جوانب الحرية وقضايا الحكم، وأنهى الحوار السياسي وقضية الحرية السياسية.

والسياسي والحاكم عنده هو المسؤول عن إضعاف الاهتمام بقضية الحرية في الفقه الإسلامي، وجعل الفقهاء يتحركون في قضايا فرعية أخرى.

والسياسي أو الحاكم المستبد يفسد الدين أولا، ويفسد الناس ويفسد أخلاقهم ثانيا.

وفيما يتعلق بحرية الفكر، رأى علي الظفيري، أننا نحن (؟) في أحايين كثيرة نركز على السلطة السياسية ومنعها وقمعها للحريات، وذكر بجملة خجولة مبهمة مقطوعة، علماء الدين، يفهم منها أن لهم دورا فيما تعرض له بعض المثقفين المعاصرين من قمع، فسأله عن كيفية ضبط التعامل مع المفكرين المجتهدين وحرية التفكير؟

ومع أن الظفيري كان يسأله عن الوقت الحاضر وعن علماء الدين اليوم في البلدان العربية، فلقد شرد بإجابته إلى الماضي القديم، فذكر أن الحسن البصري كان من تلاميذه مشايخ المعتزلة، وأن أبا حنيفة كان تلميذا لجعفر الصادق. وعلّق القضية برقبة الحكومة التي تحتاج - كما قال - إلى عصبية معينة من مذهب معين، فتقمع الحرية.

وبمثل ما برأ علماء الدين بطريقة ملفوفة، برأ المجتمع، فالمجتمع المفتوح الحر - كما قال - لا توجد لديه مشكلة مع حرية الفكر. ونحن نعلم وفق تفسيره للأمور - أن الذي يجعل المجتمع ليس مفتوحا ولا حرَّا هو الحاكم أو الحكومة أو السلطة السياسية، إذ هي - وهذا ما يريد قوله - علة موقف المجتمع الديني (بمؤسساته وفعالياته وتياراته) المتزمت من حرية الفكر.

ومما لاحظته أنه يشتد على علماء الدين في حالة واحدة، هي موالاة السلطة وفي زمن بعينه، هو زمننا هذا. أي إنه - حسب المعيار الذي اتخذه وهو معيار متناقض - لا يشتد على علماء الدين الموالين للسلطة في العصور الإسلامية الوسيطة وفي الفترة الإسلامية المبكرة.

وفي ما عدا ذلك يدافع عن علماء الدين. فلقد دافع عنهم بطريقة ملفوفة - كما مر بنا - في موقفهم الغليظ من حرية الفكر، مع أن علي الظفيري كان يقول له نحن (ربما يقصد بنحن نفسه وضيفه الأحمري والتيار العريض الذي ينتمي إليه الأخير) نركز على السلطة السياسية ولمح من بعيد إلى شاهد من الشواهد، ورغم هذا الشاهد أعاد الأحمري التركيز مرة أخرى على السلطة. أي إن السلطة عنده عنزة ولو طارت!

والصحيح أنه لا يركز على السلطة، وإنما يرى أن السلطة الجاني الوحيد الذي لا شريك له في كل قضية عرض لها في ذلك اللقاء مع علي الظفيري.

ودافع عن العلماء عندما قاطعه الظفيري بأن مفردة الحرية تثير نوعا من الحساسية والتخوف لدى كثير من التيارات الإسلامية وعدَّ منها التيار السلفي فرأى أن المسؤول عن هذه الحساسية والخوف هو الغرب (مبارك للسلطة هذه المرة: إفراج!). لأنه - كما قال - «الغرب لما جاء احتلنا. وسمى احتلاله حرية. أعطونا الكلمة لكنها تعني الاستعباد. فخاف العلماء. السبب الآخر لخوفهم أن الغرب نشر المجون والخلاعة وسماه حرية وسمى التفلّت حرية».

وكان نسي أنه قبل مقاطعة الظفيري له مباشرة قال ضمن إجابة سابقة: «لما صب علينا الاحتلال الغربي والاستبداد المحلي (السلطة قبل الإفراج عنها!) خرجت علينا محاولات فقهية معاصرة وحركة من العلماء كبيرة تهتم بحرية الناس لدرجة أن علماء العصر الحديث عدو الحرية أحد مقاصد الشريعة الإسلامية». والعلماء، علماء الدين في مقام غير دفاعي، وإنما مقام تزكية وإشادة «في نهاية الدولة العثمانية، كانوا ضدها وكانوا يخالفونها، وكانت عندهم أسماء سرية وكانوا من أسباب ضرب الخلافة المستبدة، خلافة السلطان عبد الحميد».

والذي دعاهم إلى مخالفة الدولة والعمل ضدها والسعي إلى إسقاطها هو غياب الحرية الذي هو في رأيه من «الأسباب الأساسية لإسقاط الدولة العثمانية».

لضرورة الاختصار، ولأن الرد يقتضي تفصيلا، أجمل الرد بأن: كل ما تقدم من أحكامه وتعليلاته ودفوعاته يتفاوت ما بين عدم الدقة، والاضطراب والتناقض، وعدم الصحة.

المقال القضية: «خدعة التحليل العقدي»

* التحول إلى نهج الإخوان المسلمين في تجاوز الطائفية داخل الإسلام، خصوصا مع الشيعة الاثني عشرية (تجاوز الإخوان المسلمين للطائفية مقصور على الإسلام. وفي الإسلام هذا التجاوز - فيما يتبدى لي - مقصور على الاثني عشرية وعلى الإباضية) فلقد أعلنه مقاله «خدعة التحليل العقدي» الذي كتبه في خضم حرب تموز بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، والذي أكسبه صيتا ثقافيا عاليا عند بعض الإسلاميين وبعض الصحافيين في السعودية. وصاروا ينظرون له على أنه إسلامي متفتح، ومثقف رفيع في ثقافته العربية والإسلامية وفي ثقافته الغربية.

أثار المقال جدلا عند بعض مثقفي التيارات الدينية في السعودية وخارجها. وانقسم الجدل إلى مختلف مع صاحبه برفق وإلى مؤيد له بقوة.

الاختلاف معه ومع المقال برفق، رغم حساسية ما جاء في المقال عند التيارات السلفية عامة، سببه الرفقة الأيديولوجية في المنظور للشيعة بينه وبينهم سابقا، ولأنه كان كادرا تنظيميا نشطا في العمل الإسلامي السروري الحركي في الولايات المتحدة الأميركية.

وبما أن الجدل حول المقال انحصر في الخانة السياسية المذهبية ولصلة ما جاء فيه بموضوع نقاشنا في أكثر من جانب، سأقف عنده هذه الوقفة:

ينبغي أن أذكر في البداية أن مقال الأحمري الذي بولغ في قيمته ليس مقالا بالمعنى الصحافي أو الأدبي، فالمقال أراده صاحبه أن يكون ورقة فكرية أو بحث تنظيري. وينبغي أن أذكر أيضا أن المقال هو أو مقال لصحوي سعودي يبرز فيه صاحبه عوامل أخرى غير العامل الديني وهذا من أسباب الالتفات للمقال والاهتمام به، وصدور ردود عليه. وأن المقال هو أول مقال لافت كتبه في حياته.

وفيما يلي بعض الملاحظات على المقال:

- تسمية المقال خاطئة. فالعنوان يشير إلى أن موضوعه التفسير الأيديولوجي، لأن العقيدة والعقدي تقابل الأيديولوجية والأيديولوجي، في حين أن موضوعه كان التفسير أو الرؤية الأيديولوجية. وفي ثنايا المقال اتضح أنه يقصد بالتحليل العقدي التفسير الديني الطائفي. وأن العقدي هنا نسبة إلى عقيدة السنة بدرجة كبيرة واضحة ونسبة إلى عقيدة الشيعة بدرجة أقل كثيرا من الأولى وغير واضحة.

وعقيدة السنة وعقيدة الشيعة لا تتضمن تفسيرا للسياسة ولا للتاريخ، ناهيك عن أن تتضمن تحليلا فيهما. والتاريخ الإسلامي كما كتبه مؤرخونا الأوائل لا يتضمن تفسيرا أو رؤية طائفية حتى عند المؤرخين ذوي المنحى السلفي. وإنما يمكن القول إن عقيدة الشيعة في أساسها تروي أحداث التاريخ الإسلامي وتفهمها على نحو طائفي، نتيجة لتلازم التاريخ مع العقيدة تلازما لاهوتيا لا فكاك فيه في الفكر الإسلامي الشيعي.

- لا يوجد في الإسلام شيء محتواه تحليل عقدي، للسياسة والتاريخ، وإنما يوجد فيه تفسير ديني للتاريخ. وهذا التفسير مستقى من القرآن. وهو مشترك بين السنة والشيعة. والتفسير الديني للتاريخ هو تفسير واحد في الإسلام والمسيحية واليهودية، مع اختلاف في بعض الجوانب. كما أنه - بالدرجة الأولى - تفسير أخلاقي غائي.

- خلط في عنوان المقال وفي تضاعيفه بين التحليل والتفسير. والفرق بين التحليل والتفسير فرق كبير وكان عليه أن يستخدم في العنوان تعبير «تفسير» لأن ما تناوله في متن مقاله التفسير لا التحليل.

- لم يحرر موضوع مقاله، فكان المقال سائحا بلا قوام أو مضمون محدد. وضم أمورا مختلفة ومتنافرة، رغم أن المقال غير طويل، مما جعله أشبه ما يكون بالمزودة الصغيرة.

- تجاهل في مقاله أن التفسير السياسي الطائفي إزاء الشيعة مرتبط ارتباطا عضويا بنشأة الفكرة السرورية وتبلورها كتيار متمايز عن التيار الأم، تيار الإخوان المسلمين. وتجاهل أن التيار السروري هو الذي أشاع هذا التفسير وروجه في المجتمع السعودي وفي مجتمعات عربية وفي التجمعات الإسلامية السنية وفي أوساط الطلبة السنة العاديين في أميركا وفي أوروبا. ولم يذكر أنه كان من المتبنين لهذا التفسير بكامله. فمعلومة كهذه تنص على إعادة النظر والمراجعة الداخلية حتى لو كانت جزئية، لها وقع تأثيري أكبر على الجمهور العام الذي يستهدف من مقاله إقناعه بوجهة نظره الجديدة، بل أوهم القارئ الذي لا يعرف التيار الذي ينتمي إليه أنه يتحدث عن تفسير - هو بالنسبة له تفسير خارجي - لا يمت إليه بصلة، مع أنه عاش في كنف هذا التفسير وترعرع ردحا طويلا من الزمن.

* غدا: الأحمري.. خدعة التحليل العقدي والسرورية