لا ترحمونا.. اسمحوا فقط لرحمة الله بالنزول علينا

TT

قال المسؤول الأميركي الكبير: «إنني أوجه الشكر لجماعة (الإخوان) المصرية للدور الذي قامت به من أجل رفع الحظر عن المواطنين الأميركيين والسماح لهم بالسفر».

ورد عليه القطب الإخواني الكبير الدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب قائلا: «لم يحدث أن كان هناك اتفاق بيننا وبين الأميركان في هذا الشأن».

حتى هذه اللحظة لا يوجد خطأ سياسي، لكن الخطأ جاء بعد ذلك عندما أضاف الدكتور الكتاتني المزيد من التفسير لما حدث فقال إن هذه التصريحات الأميركية سببها أن أميركا تحاول إثارة الفتنة.

لم يحدث إذن ما قاله المسؤول الأميركي، والهدف من وراء هذا الشكر للجماعة من الجانب الأميركي هو - من وجهة نظر الكتاتني - رغبة أميركا في إثارة الفتنة في مصر. هكذا أثبت الدكتور الكتاتني إخلاصه لتعليمات وثقافة نظام قديم تمرد عليه هو وجماعته لعشرات السنين وثارت عليه جماهير الشعب المصري. هي أيضا محاولة واضحة للتشبث بكل ما هو قديم في السياسة المصرية التي انتهت بإلقاء كل رموزها خلف قضبان السجون.. إنها سياسة معاداة الحقيقة وإنكار الواقع واللجوء للشعارات الجاهزة والأكاذيب التي قضت عليها تكنولوجيا الاتصالات المعاصرة. ما يقلقني في تصريحه أنه صادر عن جبهة قوية بل هي أقوى جبهة سياسية عرفتها مصر في الآونة الأخيرة، ولعل مصدر قلقي هو أن إنكار الحقيقة في السياسة متوقع دائما من الضعفاء، أما الأقوياء فعندما ينكرون الحقائق، حتى في غياب الضغوط عليهم، فليس معنى ذلك إلا أنهم يعشقون إنكار الحقائق عندما تتعارض مع مدارسهم الفكرية، أو يعزفون النغمات السائدة لسهولة عزفها. هكذا يستمر اللحن السائد في مصر وهو أن مصر مستهدفة، وأن العرب يغارون منا، وأن إسرائيل تهدف إلى القضاء علينا، وأن أميركا تثير الفتن في مصر، وربما تضاف إلى هذا اللحن «طقطوقة» جديدة عن فتح صفحة جديدة مع إيران، مع عزف منفرد عن استعدادها لأن تدفع لمصر ما تدفعه أميركا. ثم مائة شاب وشابة يزورون إيران ويعودون ساخطين بعد أن تعرضت ثورتهم المصرية لمحاولات لنشلها هناك ووضعها في جيب الثورة الإيرانية.

إنه اللحن نفسه الذي عزفته الحكومة في الأسابيع الماضية، بل وفي الأعوام الثلاثين الماضية، وهو أن العالم كله من الأوغاد الذين يعملون على هدمنا وتفتيتنا وتقسيمنا والقضاء علينا، لذلك لم تتهم الحكومة مؤسسات المجتمع المدني بأنها أخطأت في كذا وكذا وخالفت القانون في كذا وكذا، بل قفزت قفزة واسعة جدا عاليا لتتهمهم بأنهم مجموعات من الخونة الأوغاد الذين يعملون على هدم البلاد وتقسيمها، حتى الحكومة لم تدرك المتغير في مصر، لم تدرك حتى الآن أن الناس لم تعد تصدق بسهولة هذا النوع من الاتهامات. لو أن الحكومة اتهمتهم بأنهم يحصلون على آلاف الدولارات أو ملايينها و«يروقون» أنفسهم بها أو بالجزء الأكبر منها، وأن الحكومة تشعر بالغضب أو بالألم لأن هذه الفلوس تخصم من نصيبها من المعونة، لو أنها قالت ذلك، لكان من السهل أن يصدقها الناس بل ربما كان من الممكن أن يتعاطفوا معها.

شيطنة الآخر عملية لا تحدث بدافع من الخوف وحده، بل هي عملية دفاع عن النفس تفضي إلى عكس المطلوب منها، أي إلى هدمها. كثيرون في مصر يصيحون في ألم: «لم يتغير شيء»، غير أنهم لا يعرفون ما هو بالضبط المطلوب تغييره، وفي الغالب هم يخشون البحث في هذا الاتجاه خوفا من أن نكتشف أن المطلوب هو التخلص من ثقافة شيطنة الآخر، وأن الآخرين ليسوا أوغادا، وأن أميركا ليست عندها إدارة أو وزارة وظيفتها إثارة الفتنة في مصر، وأن فردة الكاوتش قديما كان لها إطار داخلي وآخر خارجي، أما الآن فهو إطار واحد. لا يوجد ما يسمى بسياسة خارجية وأخرى داخلية، ما تفعله بالآخرين هو نفسه ما تفعله بنفسك. عندما تكذب على الآخرين ستكذب حتما على أهلك. عندما تحول حلفاءك إلى خصوم، لا بد أن تقوم بعدها بتحويل جماعات من أهلك إلى أعداء. هكذا تتحول في نهاية الأمر إلى عدو لنفسك وهو ما أراه حتى الآن.

إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لفرد أو لسلطة ما هو أن يفقد الآخرون ثقتهم بها، وهو ما يحدث حتما عندما تعجز عن التنبؤ بردود أفعال شخص - أو حكومة - ما، عندها تنتابك الحيرة وتجد في النهاية أن الطريقة الوحيدة لحماية نفسك هي أن تضعه في خانة العدو.. العدو العاجز الضعيف، وهو أخطر أنواع الأعداء. وحتى لو لم تفعل ذلك فإنك على الأقل ستستبعده حتما من خانة الأصدقاء أو الحلفاء. ترى من هو الخاسر في هذه الحالة؟

أنا ما زلت على إصراري على أن السياسة ليست فرعا من فروع الشر، بل هي فن صنع الخير، وفن الوصول إلى الخير، وذلك باستخدام كل الوسائل المعرفية الفلسفية التي عرفها الإنسان على مدى تاريخه الطويل، ومن المؤكد أن الكذب ليس من بينها. وإذا توهمت أنك قادر على السير في طريق السياسة راكبا مركب الكذب، فلا بد أن تنتظرك في النهاية تلك المحطة البائسة التي سبقك إليها الكذابون في طول التاريخ وعرضه.

كما أنني ما زلت على إصراري على أن أخلاقيات الدولة وأخلاق رجل الدولة هي بذاتها أخلاقيات الفرد التي اتفقت عليها كل الأديان وكل الفلسفات وكل الأفكار التي اكتشف الإنسان أنها تؤدي للخير الأسمى. الالتواء والغموض دلالة على الضعف وليس القوة، وسواء كنت في حالة حرب أو سلام مع أي مخلوق فكن واضحا في موقفك. عندما تشعر بأنك في حالة حرب مع آخرين بغير حرب فلا بد أن ذلك نابع من إحساسك المرضي بالضعف وانعدام الثقة بالنفس، وهو ما يقودك حتما إلى اعتناق فكرة راسخة عند البشر جميعا وهي أن الحرب خدعة. هكذا تجلس في مكتبك وتمشي بين الناس في الشارع والأسواق وبين عواصم العالم في حالة مستمرة من الخداع والتمويه. بالتأكيد الخداع مطلوب في الحرب، لكنك عاجز عن الانتصار في أي حرب خاصة عندما تكون فكرتك عنها أنها خدعة فقط. الناس ينتصرون في الحروب بالقوة وليس بالخداع فقط، والقوة هنا ليست مقصورة فقط على الجنود والمعدات، بل على قوة المجتمع ككل. أما أعظم انتصار في الدنيا فهو عندما تتمكن من تفادي الحرب إلا عندما تكون خيارا وحيدا.

أما مدرسة الألسن المحاربة في مصر فأنا أطلب منها بكل وضوح أن تكف عن صنع المتاعب للمصريين في الخليج، وأناشد زملاءنا في الإعلام والحكومة الإماراتية أن يتنبهوا إلى أن الشعب المصري والحكومة المصرية، لا شأن لهما في هذه القضية التي اخترعتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر دفاعا عن الشيخ القرضاوي في قضية ليست واضحة لنا. وفي كل الأحوال لا بد من التنبه إلى أن وضع مصالح المصريين في الخليج في كفة ومصالح عضو من أعضائها في الكفة الأخرى أمر خطر للغاية. على جماعة الإخوان أن تصدق أنها قد وصلت إلى الحكم فعلا في مصر، فإذا كانوا عاجزين عن أن يكونوا رحماء بالمصريين العاملين في الخارج، فعلى الأقل عليهم بالسماح لرحمة الله بالنزول عليهم.