الجواهري يرى المستقبل

TT

في جلسة إخوانية مع زميلي المفكر والوزير الإيراني السابق، عطاء الله مهاجراني، قرأ لي شيئا من شعر الجواهري، واختص منه قصيدة تحيته لنهر دجلة «يا دجلة الخير»:

حييتُ سفحك من بعد فحييني

يا دجلة الخير يا أم البساتين

أعرب الزميل عن اعتقاده أنها كانت من درر الشعر العالمي، وليس الشعر العربي فقط. قلت له إنها القصيدة التي ترسل الدموع سيالة من أعين المغتربين العراقيين في لندن، وأنا منهم. «يا ما» كفكفت من دموع وأنا أتلو شيئا من نفسي لنفسي أبيات من «دجلة الخير».

جرنا الحديث فقلت إن القصيدة الأخرى التي ما زالت تتردد على ألسن العراقيين، هي مرثيته لأخيه جعفر، بمطلعها الذي يخاطب فيه السامع، السامع الثائر من أي بلد وأي ملة وأي ثورة وانتفاضة:

أتعلم أم أنت لا تعلم

بأن جراح الضحايا فم

فم ليس كالمدعي قولة

وليس كآخر يستفهم

يصيح على المدقعين الجياعِ

أريقوا دماءكم تُطعموا

كان جعفر، أخو الشاعر والتلميذ في كلية الحقوق العراقية، قد قُتل فيما يعرف بمذبحة الجسر، التي خاضتها مظاهرات شعبية ضد معاهدة بورتسموث، معاهدة الصداقة العراقية - البريطانية. وفقد الأخ أمر عصيب لأي مواطن عربي. وكلمة «أخ» بحد ذاتها تمثل صرخة الوجع التي يصيح بها المتوجع. فلا عجب أن تثير في الشاعر أروع ما كتبه من كلمات. ومن حسن حظي أن أكون هناك عندما أنشد الجواهري هذه القصيدة في جامع الحيدرخانة، جامع سني ينشد فيه شاعر ماركسي قصيدة في رثاء شاب شيعي. ففي تلك الأيام من أيام الخير لم يكن القوم ينظرون للأمور بمنظار طائفي. ولم تصدر بعد فتوى بتكفير الماركسيين. وفي هذه القصيدة الخالدة، يكرر الشاعر مناداته لأخيه، ومنها هذه الأبيات التي اعتبرها العراقيون نبوءة من الجواهري بما سيواجهه العراق من مصير:

أخي جعفرا لا أقول الخيال

وذو الثأر يقظانُ لا يحلمُ

ولكن بما أُلهم الصابرون

وقد يقرأ الغيب مستلهم

أرى أفقا بنجيع الدماء

تخضب واختفت الأنجم

وحبلا من الأرض يرقى به

كما قذف الصاعدَ السلمُ

وكفا تُمد وراء الحجابِ

فترسم في الأفق ما ترسم

وجيلا يجيء وجيلا يروحُ

ونارا إزاءهما تضرم

كل ذلك جرى في العراق، منذ تلك الأيام، أيام وثبة 1948، نار ودماء، وجيل من الحرامية يجيء وجيل آخر من الانتهازيين يروح، رسامون يرسمون مشانق ومذابح، بيد أن صديقي استوقفني وسألني: لكن يا أبا نايل ما المقصود بهذا الحبل الذي يذكره أبو فرات؟ قلت له: هذا واضح. إنه حبل الوظيفة، السلم الذي يقذف بهم ويصعد بهم من حضيض الأرض و«شايخانات» التسكع والشعوذة إلى كراسي الحكم والمناصب الرفيعة.