الأحمري.. خدعة التحليل العقدي والسرورية

TT

* لماذا استحضر التفسير الآيديولوجي وزج بالشيوعية وتاريخ سعد بن عبادة

* نواصل الحديث هنا حول الملاحظات الخاصة بمفاهيم الدكتور محمد الأحمري عن التحليل العقدي والسرورية.

لبس ووهم

تأمل في قوله هذا الملبس والموهم:

«قد يكون العامل العقدي في لحظة ما صحيحا، بل وحاسما، وهناك أدلة عليه، ولكن القول باطراد العامل العقدي مؤثرا وحيدا في أحداث التاريخ ينتهي بخطأ شنيع في النهاية. ويجب الحذر من جعله مدار التحليل السياسي. وهذا لب المراد في هذه اللحظة، فالمشايخ الذين يفسرون الحرب في لبنان على أنها مشكلة شيعية، وانحراف وتوريط، نجد تفسيرهم عقديا جزئيا وخاطئا، وبهذا فهو يؤيد الذين هم على الطرف الآخر الذين يرون سبب الإرهاب والقتل والدمار في العراق هم السنة مثلا. أولئك الذين لم يتفهموا بزعمهم الموقف الشيعي الذي يزعم أهله أنه حصيف».

في هذا القول العامل العقدي (لاحظ أن العقدي هنا نسبة إلى عقيدة الطائفة سنة وشيعة) في لحظة ما صحيح، بل وحاسم. وهذه اللحظة ربما تكون سنوات الثمانينات الميلادية وما قبلها بسنوات قليلة التي نشأ في ظلها هذا التفسير وراج. وغير صحيح في لحظة أخرى، هي حرب تموز، تبعا لتغيير موقفه السياسي والعقدي الطائفي من حزب الله والذي له وشيجة بتغير محور النقد والمنازعة مع الحكومة السعودية عند بعض كتاب المقالات والمحللين السياسيين في مجلة «العصر» الذين انزاحوا تدريجيا بعد مقتل رفيق الحريري إلى تأييد سوريا، عدوهم اللدود.

أما المشايخ الذين يفسرون الحرب في لبنان على أنها مشكلة شيعية - وهذا هو الجانب الموهم - إن كانوا تقليديين، فهم تبع لأصل، وهم ليسوا أس مشكلة التفسير السياسي الطائفي. ويجب هنا للإيضاح أن نفرق بين موقف طائفي تقليدي وتنظير آيديولوجي تاريخي قام على أساسه التفسير السياسي الطائفي، صنعه التيار السروري وتولى كبره، كما يجب أن نذكر أن هذا تفسير محدث وجديد في السعودية ودول الخليج ترجع انطلاقته إلى كتاب ألفه الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين نشر سنة 1980م.

إن الأحمري في مقاله لم يقدم لنا أي شيء عن محتوى هذا التفسير. ولا - ولو بإلماحة مختصرة - ظروف نشأته وملابساتها السياسية والفكرية ومصادره. ومما يجدر ذكره أن من مصادره تيار لا يصنف عادة على أنه إسلامي، ومصادر ثقافية غير إسلامية!

- يخلط بين التفسير الطائفي (أو ما سماه بالتحليل العقدي) والتفسير الديني وتفسيرات أخرى إلى حد التخبط والتخليط. فلا نعلم عن كنه التفسير الذي يتحدث عنه حديث الناقد شيئا. ناهيك عن أن تعرف صفاته العامة وصفاته الخاصة التي تميزه عن غيره. فالتفسير العقدي عنده يقوم على قاعدة «هم خطأ ونحن مصيبون، وهم ضالون ونحن مهتدون، فنحن منتصرون، وهم مهزومون».

هذه القاعدة لا تميز التفسير الطائفي، فهي من الصفات الأساسية في التفسير الديني في الأديان السماوية الذي ينقسم فيه الناس إلى ثنائية أطهار وأنجاس، خيروّن وأشرار، ضالون ومهتدون.

ومن أبرز النماذج المهمة عنده عالميا لمعرفة خطل التحليل العقدي وخداعه لأهله «ما حدث من ثقة علماء الإسلام في تركيا من أن الإسلام حق، والله ناصره، والتقنية عند الغربيين لن تنتصر لأنهم كفار ولن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلا. ومن الأمثلة التحليل النازي الذي زعم أن الجنس الجرماني لا يغلب، ولن يطاوله جنس في العالم».

ما حدث في تركيا من قبل علمائها في تلك الحادثة التي ذكرها هي أيضا تدخل في نطاق التفسير الديني، مطلق التفسير الديني. وهذه الثقة مصدرها وعد إلهي عند المسيحيين واليهود والمسلمين.

وفي الفترة التاريخية التي حصلت فيها تلك الحادثة استشرى عند المسلمين تمادٍ وتوسع وغلو في فهم هذا التفسير إلى حد التفريط في الأخذ بالأسباب، تواكلا ودروشة.

ولصق المثال الثاني أو ما سماه بالتحليل النازي، بالمثال الأول اللذين اعتبرهما نموذجين عالميين لمعرفة خطل التحليل العقدي وخداعه لأهله، مثال ساطع للربط بين أمرين لا يوجد بينهما محل ربط. كما أن التفسير الإسلامي الطائفي المحدث لا يوجد بينه وبين الاعتقاد النازي الذي زعم أن الجنس الجرماني لا يغلب، ولن يطاوله جنس في العالم أدنى رابط.

من مآخذ الأحمري على التفسير الآيديولوجي أنه يجد أن «المحلل العقدي ينهي الموقف بلوم العقائدي المخالف ويحملّه جرائم العالم، كالقول بأن المشكلات أو الهزيمة سببها عبد الله بن سبأ قديما، أو الشيعة حديثا، أو المعتزلة أو الشيوعية أو الوهابية أو الصوفية أو الرأسمالية أو الصهيونية، ويغفل تماما أي بنية للمشكلة من الطرف الذي هو فيه، والعقديون المضادون إن كانوا في مستوى عقله ردوا عليه بالطريقة نفسها، وبهذا تضيع الحقيقة».

تحميل عبد الله بن سبأ أوزار الفتنة الكبرى والحرب الإسلامية الأهلية التي حصلت في أواخر دولة الراشدين، والقول بأن عبد الله بن سبأ اليهودي أس التشييع، وأن الشيعة متآمرون مع أعداء الإسلام حديثا وقديما وأنهم سبب المصائب والنكبات التي تعرض لها المسلمون في عصورهم القديمة إلخ.. يدخل في نطاق التفسير التآمري للتاريخ. والتفسير التآمري يشكل العمود الفقري للتفسير السني الطائفي عن تيار ديني محدث بعينه، وهو التيار الذي أراد أن يناقشه الأحمري في مقاله. هذا التيار هو التيار السروري الذي ينتمي هو إليه.

الشاهد على أنه يتحدث عن هذا التيار هو قوله في الفقرة الثانية من المقال - والتي سبقت النص أعلاه المستشهد به مباشرة - : «حديثنا هنا هو عن أثر العقيدة في الوصول إلى أخطاء تحليلية فادحة.. وقد يسمى موقفه (يقصد المحلل العقدي، كما يسميه) موقفا مؤصلا صحيحا شرعيا».

وكما نلاحظ في المثال الأول (ابن سبأ) والمثال الثاني (الشيعة حديثا) وقع في الأخطاء التالية وهي: أن التيار السروري أو ما يسميه بالمحلل العقدي، لا يقول بهذه الطريقة المخففة أن ابن سبأ سبب «المشكلات أو الهزيمة» التي تنبئ عن أنه كان مشاغبا و«مشكلجيا» في الأولى، أو قائدا عسكريا أخرق أو متخاذلا، بل يقول إنه متآمر وحاقد على الإسلام بدافع من يهوديته وأسلم ليكيد للإسلام وأهله وينفذ مؤامرته التي انتهت بنحر الخليفة عثمان بن عفان وحرب الجمل إلخ.. وأن هذا التيار لا يقول إن الشيعة حديثا سبب المشكلات والهزيمة. إنه لو كان يقول بهذا - بحسب عبارته غير الدقيقة - لهان الأمر. فهذا التيار يحمل الشيعة المصائب والنكبات التي حلت بالمسلمين قديما وأنهم في بعضها كانوا علتها وفي بعضها الآخر كانوا متواطئين فيها. وهذا التيار لا يكتفي بتوجيه اللوم - بحسب عبارة أخرى له غير دقيقة -، بل يربطهم بابن سبأ ويربط ابن سبأ بهم في حبل متين من الإدانة والتشنيع. ويرى - بحسب تفسيره التآمري - أن الشيعة حديثا مستمرون في حبك المكائد والتربص بأهل السنة الدوائر إلخ..

التفسير الآيديولوجي والمعتزلة والشيوعية!

أما بالنسبة للأمثلة الأخرى، كالمعتزلة والشيوعية والوهابية والصوفية والرأسمالية والصهيونية، فهي أمثلة غير مطردة للقول بأن كل واحدة منها تمثل عند هذا التيار سببا مضخما للمشكلات أو الهزيمة - بحسب تعبيره - ومضطربة ومهتزة وغير صحيحة في سياق الفكرة التي ضرب فيها هذه الأمثلة. وكذلك فإن قوله إن العقائديين المضادين (أي عقائديي المعتزلة والشيوعية والوهابية والصوفية والرأسمالية والصهيونية) إن كانوا في مستوى عقله ردوا عليه بالطريقة نفسها، غير مطرد ومضطرب ومهتز وغير صحيح في تلك الفكرة المشوشة التي قدمها.

- التفسير الآيديولوجي أو ما سماه هو بالتحليل العقدي ليس له أداة أو أدوات معينة تستخدم فيه للفهم والتفكير والبحث والتعليل، بل هو عبارة عن كلمة فضفاضة ومطاطة. ولتوضيح هذا الأمر سآتي من مقاله بنصين يتحدث فيهما عما سماه بالمحلل العقدي.

في النص الأول يقول: «إن المحلل العقدي يؤمن بأنه على الحق دائما، وأن النصوص معه تؤيده وتحفزه وتحدد أطراف المعركة بدءا بالتوراة والإنجيل ثم القرآن إلى نصوص ماركس. ويعاني من استسلام غير واعٍ للنصوص وللأفكار التي يسيء فهمها».

وفي النص الثاني، يقول: «المحلل العقدي المتزمت لطائفته سواء أكان شيوعيا أم شيعيا أم سنيا، فإنه لا يرى العالم إلا من خلال عقيدته».

يطلق على التفسير الذي ينطلق من التيار أو المذهب سواء أكان دينيا أم غير ديني الذي يؤمن به الفرد، تسمية تفسير آيديولوجي. ويطلق على الذي لا يرى العالم إلا من خلال عقيدته، اسم آيديولوجي أو عقائدي.

ويطلق على التفسير الذي ينطلق من آيديولوجية الجماعة المدروسة ويكون صاحبه من آيديولوجية أخرى مضادة أو مذهب أو دين آخر مختلف، تفسير آيديولوجي. ويطلق على الشخص الذي لا يرى العالم من خلال عقيدته وحسب، وإنما يراه بتفتح من خلال رؤى عقائدية أو آيديولوجية مختلفة، ويعطيها الثقل في الفهم والتفسير، اسم آيديولوجي أو عقائدي.

أشرح هذا الأمر البسيط لأوضح للأحمري أن التفسير الآيديولوجي لا يسير باتجاه واحد محدد، كما توهم.

وفي النص الثاني هناك عبارة توحي بأنه يعتبر الشيوعية مثلها مثل الشيعة والسنة طائفة، وهذا خطأ شنيع. فالشيوعية ليست طائفة.

قد يقول إنه استخدمها بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي. أي يعني بها جماعة. هذا التخريج لا يستقيم مع حديث في المقال عن الشيوعية بالمطلق، وجعلها في المقال بشكل أساسي موضوعا للمقارنة مع التفسير الطائفي الديني الإسلامي، والمثال الأبرز لما سماه بالتحليل العقدي.

والحق أنه زج بالشيوعية في مقاله من دون مبرر نظري ولا مسوغ منهجي. فما علاقة الشيوعية بالتفسير الطائفي الديني الإسلامي أو على نحو أكثر تحديدا ما علاقتها بالتيار السروري وتفسيره الطائفي.

إنني أعلم أنها في الغرب منذ ما قبل منتصف القرن الماضي شبهت بالبيوريتانية (التطهرية) تلك النحلة المنشقة عن البروتستانتية في جوانب عدة، كعقيدة الاختيار والاصطفاء وأنهم نتيجة لهذا الاختيار والاصطفاء يرفلون بنعمة لا حد لها، وأن إنكار عقيدتهم الأساسية رجس من الشيطان. وأن الازدراء الشيوعي البلشفي للمعرفة البرجوازية يماثل تماما الريبة التي تملأ نفوس رهبان طائفة البيوريتانيين نحو المعرفة العلمانية. وأن اعتماد البلاشفة على نصوصهم التي يأخذونها من ماركس ولينين وستالين يطابق تماما اعتماد المتطهرين على آيات الأسفار المقدسة إلى آخر ما قاله هارولد لاسكي في التشابه بينهما.

وأعلم أن الشيوعية شبهت بالدين في يقينياته وقطعياته أو في دوغماه. وأعلم أنه نظر إليها بوصفها دينا مقلوبا.

وأعلم أن ثمة تشابها ما بين الإسلاميين والشيوعيين في بعض زوايا النظر وبعض الجوانب التطبيقية لكن المقال لم يكن يحلل التفسير الديني ولا يتحدث عن الدين بحد ذاته ولا يحلل أفكار الإسلاميين المعاصرين وممارستهم العملية.

وزيادة على هذا الزج غير المبرر قدم الشيوعية أو الماركسية لا من خلال نهجها التفسيري الأساسي، وإنما من خلال هوامشها ونوافلها.

يقول في المقارنة الأولى: «إن التحليل الشيوعي في روسيا، كانت عقدته ثقته العقدية، فقد اكتشف جورج كينان نقطة الضعف هذه، في العقلية السياسية الشيوعية ورصدها بدقة واستمرار للمعرفة والمراجعة، ثم حدد مرض الحزب الشيوعي بأنه: (الثقة العقدية)، فالعلمية التاريخية والحتمية التاريخية، التي تنصر الطائفة المنصورة - وقد ورد ذكرها في الكتاب المقدس لدى النصارى (انظر كتاب طارق متري، /مدينة على جبل/) - سوف تنتصر دائما. وهي التي تحدد اتجاه العالم ومصيره وأنه سيكون دائما في خدمتها، حالا ومآلا. فكان الشيوعيون يرون أن مستقبل العالم وتوجهه سوف يكون نحو الشيوعية، وذلك كان خداعا للنفس وقصورا في التحليل».

يقدم هنا - وهو التقديم الأول للشيوعية القائم على مقارنة - التحليل الشيوعي من خلال نقطة ضعفه، وهي الثقة العقدية، التي اكتشفها جورج كونان!

مما هو مشتهر عند المثقفين أن الثقة العقدية ليست خاصة بالشيوعية في روسيا، فهي من لوازم الإيمان بالشيوعية في كل مكان. وأظنها مسألة لا تحتاج إلى اكتشاف لأنها ظاهرة وبارزة وليست باطنية مضمرة. فهي مسألة لم يكتشفها جورج كونان. كما أنها ليست اللب والجوهر في التفسير والتحليل الماركسي. وأن المستقبل - بحسب مقتضيات العلمية التاريخية والحتمية التاريخية - للشيوعية وربطها بفكرة دينية أخروية مسيحية عند إحدى الشيع البروتستانتية، (لعلها البيوريتانية)، التي تؤمن بأنها الطائفة المنصورة ربط لم ينفرد به جورج كونان. فلقد قام بهذا الربط وهذه المماثلة وقال أيضا بالثقة العقدية - كما مر بنا - هارولد لاسكي بمقالات ومحاضرات جمعت في كتاب صدر سنة 1942، اسمه: «تأملات في ثورات العصر».

وجورج كينان الذي أورد الأحمري من أحد كتبه الاقتباس القصير السالف، ظهر أول مقال له عن الاتحاد السوفياتي سنة 1947 من دون اسم والذي اشتهر باسم المقال المجهول.

إن الاقتباس القصير الذي نقله عن جورج كينان غير ذي بال بالنسبة للشيوعية وغير مفهوم الغرض منه في موضوع مقاله. لنحاول أن نفهم هذا الغرض وفق المعطيات التالية:

أولها: المقال كتب في أثناء حرب يوليو (تموز) التي شنتها إسرائيل على لبنان.

ثانيها: المقال يناقش - وإن عمّى على ذلك وموّه - تصورا سلفيا طائفيا إحدى ثوابته، المفاصلة النظرية والعملية مع الشيعة والصراع العقدي معهم على مستوى التاريخ وفي دنيا الحاضر، وبالتالي رفض فكرة التقارب الديني والتحالف السياسي بين الشيعة والسنة.

ثالثها: جورج كينان دبلوماسي وسياسي أميركي. ومن السياسيين الواقعيين المشاهير في العالم. وهو صاحب فكرة احتواء الاتحاد السوفياتي داخل مناطق نفوذه لا مواجهته، والتي دعا إليها في المقال المشار إليه أعلاه والذي نشره في مجلة «الشؤون الخارجية» تحت عنوان «مصادر التحكم بالاتحاد السوفياتي» ونظرا لأنه صاحب هذه الفكرة أو النظرية عدّ مهندس الحرب الباردة وسيحاول الأحمري أن ينقل نظريته إلى مجال سياسي ديني مذهبي. فالغاية من الاقتباس ليست الاقتباس نفسه، بل نظرية المقتبس منه.

رابعها: نقله عن جورج كينان مماثلته حتميات الشيوعية العلمية والتاريخية بمعتقد البيوريتانيين الأخروي المسيحي بأنهم هم «الطائفة المنصورة» يشير من بعيد إلى معتقد أخروي إسلامي يقوم على بضعة أحاديث مروية بعبارات مختلفة اختلافا طفيفا ومعناها واحد منها:

عن معاوية بن أبي سفيان: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله».

عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة».

وعن عمر بن حصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال».

هذه الأحاديث التي تنبئ عما سيحصل في آخر الزمان حاضرة عند التيارات السلفية ومنها التيار السروري بقوة، واستنادا إليها يرون أنهم هم «الطائفة المنصورة».

وقوله: إن التحليل الشيوعي في روسيا كانت ثقته العقدية هي عقدته ونقطة ضعفه ومرضه إشارة غير مباشرة إلى أن ثقة التحليل العقدي عند السلفيين هي أيضا، العقدة ونقطة الضعف والمرض.

وهذه الثقة العقدية في التحليل الشيوعي في روسيا هي عنده سبب هزيمة الاتحاد السوفياتي أمام أميركا وسبب سقوطه وسقوط الشيوعية معه.

وهو بهذا الكلام الموجه للسلفيين يريد أن يمرر لهم نصيحة عملية بأن لا يركنوا - فقط - إلى الثقة العقدية وإلى أنهم هم الطائفة المنصورة فيكونوا كالشيوعيين، فيلقون المصير نفسه الذي انتهى إليه الشيوعيون.

ويدعوهم إلى أن يكونوا كأميركا التي اتبعت سياسة الاحتواء التي دعا إليها جورج كينان الخبير في السياسة السوفياتية. فيتبعوا مثلها هذه السياسة مع الشيعة ويتخلوا عن سياسة المواجهة معهم.

هذا هو الغرض من الاستعانة باقتباس نص قصير لجورج كينان غير ذي بال، فهو كان يريد أن يطرح على جمهور ديني داخلي ينتمي هو إليه، نظرية الاحتواء ويقنعهم بها. وهذا هو الغرض أيضا من زجه للشيوعية في موضوع مقاله.

ولكي يقنع الأحمري الجمهور الديني الداخلي الذي ينتمي إليه أتى بنبأ عظيم هو أنه: «بعد مراقبة ذكية للعقلية العقدية الشيوعية، عرف خصومهم أن هذه العقيدة هي مفتاح التغلب عليهم، والسيطرة على أفكارهم من خلال تركهم يتمادون في هذه التفسيرات، وقد قامت مراكز بحث وتوجيه للمعرفة والسياسة تهتم بصحة هذا التحليل (عقدة الثقة العقدية) لنفسية العقديين، وإمكان الاستفادة من ضعفها، ثم تنفيذ خطة تنتهي بالفشل الكبير للموقف الذي لا يناقش ولا يصحح نفسه، وقد كان!».

إنه يزعم هنا أن أميركا بعد مراقبة ذكية للعقلية الشيوعية اكتفت بإقامة مراكز بحث وتوجيه تهتم بصحة تشخيص مرض الشيوعية النفسي، وتركت الشيوعية تتمادى في تفسيراتها ثم نفذت خطة انتهت بالفشل الكبير للشيوعية الذي سببه الأساس الثقة العقدية.

إنها - وأيم الله - فرية، وفرية دعوية!

الزج بسعد بن عبادة

هذه الدعوية، دعوية ذات محتوى سياسي دعائي. ولأنها كذلك فلقد زج بأمر سعد بن عبادة مع خلافة أبي بكر في حديث له عن ملامح التفكير الشيوعي وتفسيره العقدي، بغرض الإسقاط السياسي والفكري.

يقول: «من ملامح التفكير الشيوعي وتفسيره العقدي أنه كان يلزم أفراده بصحة النتائج التي يصل إليها تحليلهم، وهذا قضاء على العقل والمعرفة ينتج فشلا ذريعا في المستقبل، فإن اتخاذ حكومة ما أو حزب موقفا لا يعني أن تلقي عليه ظلال الصحة فضلا عن العصمة بل قد ينفذ كما ينفذ الجندي القرار، ولكن يجب أن يبقى له حرية التفكير والتعبير عن رأيه المخالف. فقد وسع سعد بن عبادة ألا يبايع ولا يوافق على خلافة أبي بكر، وبقيت له مكانته واحترامه، لأنه لم يقد عسكرا للانتقام لفكرته ولكن الشيوعيين كانوا يقتلون على الهواجس والأوهام. بعد أن يمطروا المخالف بالنقائص والتهم. وويل للحق الموجود خارج الحزب وللأسف كثيرا ما يكون كذلك لأن الولاء الحزبي يحمي غالبا الرعاع».

ويتمم كلامه هذا بفقرة تالية هي قوله: «زد على ذلك، أن المفسر العقدي غالبا يلاحظ توجه الحكومة أو الأتباع، ويتخلى عن المعرفة والعقل في سبيل إرضاء الغوغاء، ويبدأ يسترضي ويجامل الغوغائية حتى تصبح الغوغائية والعواطف الشعبية هي المسيطرة على تفسيره، وتلك علة أكبر، تنتهي بالفشل وتنتهي بالبعد عن الحق والبعد عن الأمانة ويتسلم العقدي حكوميا بوقا قديما ينفخ فلا يستجيب أحد، ثم يهدم الناس جدار برلين، ويخرجون من دوائر الرعب والزيف المعاد».

هاتان الفقرتان تلتا أربع فقرات، كان يتحدث فيها عن التحليل الشيوعي والعقلية السياسية الشيوعية التي أوردنا منها قسما من فقرتيها، الأولى والثانية فيما سلف، وهاتان الفقرتان كانتا استرسالا في الحديث عن التحليل الشيوعي والعقلية العقدية الشيوعية. وبما أن الأمر كذلك يصبح غير ذي سياق - بالنسبة لحكومة الاتحاد السوفياتي وحكومات المعسكر الشيوعي إبان وجودهما - أن يحاججهما - على سبيل الإلزام الليبرالي - فيقول في البداية برهافة ليبرالية: إن اتخاذ حكومة ما أو حزب موقفا لا يعني أن تلقى عليه ظلال الصحة، فضلا عن العصمة. ثم يصعد نبرته الليبرالية، فيندد بأن الموقف المتخذ قد ينفذ كما ينفذ الجندي القرار. ثم على نحو غير متوقع عقب تصعيد النبرة، يطالب بفظاظة ليبرالية بحرية التفكير وحرية التعبير عن الرأي المخالف.

وغير ذي سياق أيضا، بعد أن حاججها بما يعتبرانه مقارنة بأنموذجهما السياسي الآيديولوجي الحربي الذي يقوم على المركزية الديمقراطية، ترهات برجوازية شكلية ديماغوجية وميوعة ليبرالية متفسخة، أن يحاججهما بإسلامية، زمِّيتة وأصولية، مفاضلا بخشونة بينهم وبين الخلافة الراشدة في عهدي أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ومذكرا الرفاق الشيوعيين بحكومة الاتحاد السوفياتي وحكومات المعسكر الشيوعي بما نسوه أو تناسوه من أن أول خلافة في الإسلام، الخلافة الراشدة، وسع سعد بن عبادة سيد الخزرج فيها ألا يبايع أبا بكر بالخلافة لأنه غير موافق على استخلافه، وبقيت له مكانته واحترامه، لأنه لم يكن - وهذه إضافات من عندي تتناسب وهذا الزج الفج لسعد بن عبادة - انقلابيا عسكريا فاشيا، ولم يتهم بالتحريف لإفراغ العقيدة من محتواها الصحيح ومن موضوعاتها الأساسية لصالح البرجوازية، ولم يوصم بأنه باكونيني فوضوي مغامر، ولم ينف إلى سيبيريا.

كما أنه غير ذي سياق في الدولة الشيوعية قوله: «إن المفسر العقدي غالبا ما يلاحظ توجه الحكومة ويتخلى عن المعرفة والعقل في سبيل إرضاء الغوغاء» لأن الحكومة والمثقف والعامة في هذه الدولة كيان واحد، فهي لا تقوم على ثنائية أو تعددية حزبية. وفي هذه الدولة لا يوجد ما سماه «بالعقدي حكوميا (الذي) يتسلم بوقا قديما ينفخ فيه فلا يستجيب أحد». ذلك لأن الحزب هو الحكومة والشعب. والحزب هو الدولة والدولة هي الحزب.

ولكيلا يتهم مبلغه من العلم في الشيوعية التي طلب العلم فيها مؤخرا عن طريق ما كتبه جورج كينان عنها في كتبه، سأميط اللثام عن إسقاطه السياسي والفكري على الواقع المحلي.

الأحمري - بما جاء في تينك الفقرتين وبما جاء في مقالته كلها كان يخاطب - كما أسلفت - جمهورا دينيا داخليا. وهذا الجمهور، جمهور سني سلفي عام. ويخاطب ضمن هذا الجمهور، جمهورا حزبيا وعاما، هو الجمهور السروري الذي هو أحدهم.

الشاهد على ذلك استدعاؤه لما كان من أمر سعد بن عبادة مع خلافة أبي بكر.

فالخلافة الراشدة إلى عثمان بن عفان عند الشيعة هي اغتصاب للسلطة. وموقف سعد بن عبادة من خلافة أبي بكر وما جرى له بعدها يقدمونه على نحو آخر مختلف ونقيض للطريقة التي قدمها هو. فهذا الموقف لسعد وما جرى له بعدها يستعملونه من بين أمور عدة، لخدش أنموذج الخلافة الراشدة عند السنة والنيل منها والطعن في نظرية عدالة الصحابة أو مبدأ أن الصحابة كلهم عدول في الفكر السني.

أما طريقته هو أو الغاية منها، هي ليس تبرير المعارضة وحسب، وإنما تبرير حرية عدم الاعتراف الديني بشرعية الحكم. وتسويغ ذلك للجمهور الديني السني، وبخاصة في السعودية، استنادا إلى أن الخلافة في الفكر الإسلامي السني هي الأنموذج والمرجع والحكم والموئل واستنادا إلى نظرية عدالة الصحابة، فسعد بن عبادة صحابي أسلم مبكرا وحضر بيعة العقبة الثانية، وكان أحد النقباء الاثني عشر، وحامل راية الأنصار في المشاهد كلها، ولم يبايع أبا بكر على الخلافة وترك حرا ولم يلزم بالبيعة.

وقد قلت: تسويغ ذلك للجمهور الديني السني، خاصة في السعودية، لأن الحكم السياسي فيها يتكئ إلى حد كبير على شرعية إسلامية سنية سلفية تقليدية. ففي البلدان العربية الإسلامية عندما يستدعي مثقف إسلامي أمر سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة مع خلافة أبي بكر وعمر ويمنحه بعدا ليس فيه، لا يتعدى الأمر كونه مفاخرة تاريخية بليبرالية سياسية مزعومة، ذلك لأن هذه البلدان لا تتكئ على الشرعية الدينية بالصورة التي عليها السعودية.

شرطه لحرية عدم الاعتراف بشرعية الحكم - من خلال استدعائه لموقف سعد الرافض لبيعة أبي بكر - هو ألا يكون عدم الاعتراف هذا، مقرونا بعمل حربي أو عسكري.

زبدة القول في إسقاطه هذا، أنه كان يحاجج الحكومة السعودية والعلماء والمشايخ التقليديين والمشايخ والمثقفين والكتاب الصحويين في موقف سياسي بعينه. وكانت المناسبة حرب تموز التي شنتها إسرائيل على لبنان. أما العقدي الحكومي صاحب البوق القديم، فيعني به الكاتب والمثقف الموالي للحكومة موالاة تامة والموالي لها موالاة نقدية.

موقف سعد بن عبادة الرافض لمبايعة أبي بكر بالخلافة وما صحبه من تفسير والذي استند فيه كسابقة تاريخية أولى على جواز رفض البيعة وشرعية المعارضة في الخلافة الإسلامية الراشدة وهو الموقف الذي كرر الاستشهاد به في لقائه مع علي الظفيري في قناة «الجزيرة» الذي دار حول الحرية في الفكر الإسلامي، يحتاج إلى تعليق.

سعد بن عبادة بعد هذا الموقف اعتزل الناس أو الناس اعتزلته لأن الأنصار في مبتدأ حادثة السقيفة بايعوه ثم تراجعوا عن بيعته بدءا بالأوس ثم تبعهم الخزرج قبيلته الذي هو زعيمها. وكان يحج ولا يفيض مع المسلمين بإفاضتهم. ولم تسعه المدينة فنفى نفسه في آخر حياته في حوران إلى وفاته. ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسله. ويقال: إن الجن قتله.

وقوله محللا: وسع سعد بن عبادة ألا يبايع، وبقيت له مكانته واحترامه، لأنه لم يقد عسكرا للانتقام لفكرته، تعليل غير دقيق لعدم إلزامه بالبيعة. والتعليل هو أنه زعيم الخزرج والمتحدث باسم الأنصار في مؤتمر السقيفة الذين خذلوه في مطمحه تباعا، وكان شيخا كبيرا طعن في السن. فإكراهه على البيعة يؤلب عصبته القبلية، الخزرج، ويؤلب أبناء عمومتهم الأوس، على قبيلة قريش بأجمعها.

وأحسب أنه لم يكن متيسرا له أن يقود عسكرا حتى لو فكر في ذلك لأن الأنصار بايعوا - كما المهاجرين - أبا بكر بالخلافة، ورضوا بعمر خليفة من بعده.

إن بوسع الأحمري أن يبرر لشرعية المعارضة السياسية داخل الدولة الإسلامية وحق عصيانها بسوابق إسلامية تاريخية أخرى، لكن ليتجنب اتكاءه الوحيد على رفض مبايعة سعد بن عبادة لأبي بكر الصديق لأنها لا تخدم فكرته من جهة، وتعتبر اتكاء غير حصيف من جهة أخرى.

التحول نحو خطاب الحرية

إننا في حالة الدكتور الأحمري أمام تحولين: تحول إلى فكرة التقارب الإسلامي وإلى خطاب الحرية، وقد جاء هذان التحولان في وقت متقارب. وكنا نتمنى أن يكون هذا التحول تحولا فكريا لا تحولا محدودا بالسياسة وتحالفاتها التي تكون مؤقتة وراهنة وتدور مع المنافع والمصالح.

إن للحرية عنده مجالا محددا ونطاقا ضيقا. وهذا ما لمسناه في صدر المقال، رغم زعمه أنها قضية مركزية في فكره، ومركزية في الفكر الإسلامي عموما، القديم والحديث.

في لقاء «الجزيرة» عندما طلب منه الظفيري تعريف الحرية حار لأن لها - كما أخبرنا - ما يزيد على المائتي تعريف أحصاها أحد المفكرين الكبار. وانصب ناظره على حرية السجين ولم يقدم تعريفا مرضيا. لكن في حمأة دفاعه عن أن التيارات الإسلامية وعلماء الدين الذين تثير عندهم مفردة الحرية نوعا من الحساسية والتخوف - كما قال الظفيري - وفي مجابهة الغرب الذي هو عنده سبب حساسيتهم وتخوفهم من الحرية قدم تعريفا، فقال: «إن الحرية هي قدرة العالم والمثقف وجميع طبقات المجتمع في تطوير ذاتها وفي تطوير مجتمعاتها والخلاص من القيود السياسية وغيرها من القيود الفكرية».

هذا التعريف أحسن قليلا من التعريف الأول للحرية التي عرفها بأنها «هي إطلاق قدرات الإنسان ومكوناته الإنسانية وفكره وعقله ليعيش هذه الحياة بشكل طبيعي. وهذا هو الأصل في الحرية».

أشك (مع أنه في تنظيره للحرية لم ينص على حرية الشك) أن يكون هذان التعريفان من بين التعريفات التي أحصاها أحد المفكرين الكبار، وأشعر أنهما تسربا إلى قاموس الحرية من إحدى الدورات الإدارية الروتينية المملة في تطوير الذات!

ولا عجب في هذا، فالديمقراطية - عندما سأله الظفيري عن أنموذجها الغربي - رأى أنها «وسيلة إدارية. ليست عقيدة. ليست دينا» وشدد على أنها «طريقة إدارية لإدارة المجتمعات» وليؤكد صحة رؤيته الإجرائية التي تقوم على عزلها عن أنموذجها في الغرب وإفراغها من محتواها الآيدولوجي ضرب مثالا مستمدا من قسم المحاسبة!

نظرة ثورية تبسيطية

أخلص من هذا النقاش إلى انطباع مجمل عن الأحمري، هو أن يغلِّب النظرة السياسية الراديكالية ويحصر ثوريته ومعارضته في الشأن السياسي سواء أكان هذا الشأن يتعلق بالعهود الإسلامية القديمة أو يندرج في العهود الحديثة.

مشكلة هذه النظرة وهذا الحصر، تكمن في اختزاليتها وتبسيطيتها وأنها تشجع على التهييج العاطفي والتطرف السياسي والفكري ذي الطابع الديني، ولا تساعد على الفهم التاريخي النابه والتأمل الفكري الحر. وينطبق عليها ما قاله هو في وصف المحلل العقدي. فـ«المحلل العقدي ضيق الأفق، قريب المرمى، محدود الأبعاد في التفسير، ويأنس لرؤيته وموقفه أولئك المحدودون الذين لا يتحملّون تعدد مجالات الرؤية».

قفز إلى ذهني - وأنا أكتب هذه السطور - من قبو الذاكرة عبارة جدا قصيرة، أذكر أني أول مرة قرأتها شغفت بها سنين عددا. هذه العبارة تقول: «لا علم إلا التاريخ».

آراء الأحمري وتفسيراته وتنظيراته التي ناقشنا بعضا منها، تعاند هذه العبارة بإصرار وتحدٍ، وتوحي بأن «لا علم في التاريخ» رغم أنه دارس لعلم التاريخ ومن تيار في العالم العربي، منغمس في مطالعة التاريخ لكن من دون - هو وتياره - حصاد نظري معمق ونابه في فهم واستيعاب حركة التاريخ وتعليلها تعليلا جدليا!