المواطن «العبء».. والمواطن «الإضافة»!

TT

أي زائر لليابان هذه الأيام، سوف يلاحظ أنهم هناك مختلفون بقوة، حول اقتراح برفع نسبة ضريبة الاستهلاك التي يدفعها كل مواطن ياباني عن كل سلعة يشتريها، وهي ضريبة بدأت بـ3% ثم ارتفعت إلى 5% وجاء الحزب الديمقراطي الحاكم ليقترح مضاعفتها إلى 10 %.

اليابانيون في إجمالهم، رافضون للمقترح، لأنه سوف يؤدي إلى تحميلهم فوق طاقتهم، ولكن الحكومة - في المقابل - متمسكة بما تقترحه، وتبرر تمسكها، بأن الميزانية العامة للدولة تواجه عجزا كبيرا، ولا سبيل إلى مواجهة هذا العجز، إلا بالبحث عن موارد جديدة، تستطيع بها أن توازن بين الإيرادات، والنفقات، فلا تتفوق الثانية على الأولى، فينشأ العجز كما هو حادث في الوقت الحالي!

غير أن السؤال الذي يتعين أن نسأله نحن هنا، على أرض العرب، لأنفسنا، هو: وماذا يفيدنا في مسألة كهذه؟! إنها، في ما تبدو لأول وهلة، حكاية تخص اليابانيين وحدهم. وبالتالي، لا شأن لنا بها!

وهذا بالطبع صحيح، من حيث الشكل، ولكن إذا تأملنا المضمون، فسوف نكتشف أن علينا أن نأخذ درسا مهما للغاية من القضية على بعضها.

ولن يتأتى لنا هذا الدرس، إلا إذا عدنا إلى الأصل في الموضوع، لنسأل: ما سبب العجز في ميزانية الدولة اليابانية؟! وسوف يكون الجواب، أن عجز ميزانية أي دولة سببه أن إنفاقها العام، يتجاوز مواردها كدولة. ولذلك، فإن عليها أن تبحث عن باب جديد يأتي لها بموارد مضافة تواجه الإنفاق العام المتزايد.

وهنا، ينشأ سؤال آخر: على أي شيء، بالضبط، تنفق الحكومة هناك، بما يجعل ميزانيتها تعاني عجزا إلى هذا الحد؟! أما الجواب فهو أن وجوه الإنفاق العام متعددة، ولها أكثر من صورة، ولكني لاحظت، على مدى عشرة أيام قضيتها بين العاصمة طوكيو، ومدن أخرى، أن وجهين على وجه التحديد هما اللذان يستحوذان على النسبة الأعلى من الإنفاق العام الياباني أولهما: التعليم، وثانيهما: الرعاية الصحية.

وحين يقال الكلام هكذا على إطلاقه، فربما تهمس أنت بينك وبين نفسك، الآن، وتقول بأن كل دولة تنفق على تعليمها، وعلى رعاية مواطنيها صحيا.. فما الذي استجد لدى اليابان، بحيث جعلها تواجه عجزا متزايدا في ميزانيتها العامة بسبب إنفاقها العام على هذين الملفين؟! أما الذي استجد لديهم، فهو أن التعليم الذي ترغب الحكومة اليابانية في تقديمه للطالب الياباني، إنما هو تعليم بكل ما تعنيه الكلمة، وليس مجرد ذهاب من جانب الطالب إلى مدرسته، ثم عودته منها، بصرف النظر عما إذا كان قد استفاد من ذهابه أم لا؟! كان لي لقاء هناك مع مسؤول في وزارة التعليم والبحث العلمي والثقافة، وسألت عما تحرص عليه الحكومة، وهي تقدم الخدمة التعليمية للمواطنين، ففهمت من إجابته أن الحكومة تحرص في هذا الإطار على شيئين متلازمين، تلازم الشيء وظله، أولهما أن تتاح لكل مواطن ياباني فرصة في التعليم الأساسي الذي يمتد لتسع سنوات من العام الأول الابتدائي إلى العام الثالث الإعدادي، وأن تكون هذه الفرصة إجبارية، ومجانية، وثانيهما - وهذا هو الأهم - أن تلتزم الخدمة التعليمية المقدمة بمستوى معين لا تنزل عنه، أيا كانت الظروف!

نحن، إذن، أمام «فرصة» وأمام «مستوى» لهذه الفرصة، وبطبيعة الحال فإن إتاحة الفرصة في التعليم، دون مستوى متميز، يفرّغها تماما من مضمونها، ومن هدفها، ويجعلها وكأنها لم تكن.. وإلا، فما الفارق بين التعليم عندهم، وتعليمنا نحن في القاهرة علي سبيل المثال؟!

هناك فرصة متاحة.. وعندنا فرصة متاحة.. هناك تعليم مجاني، وعندنا تعليم مجاني.. بل إننا نتفوق عليهم في حكاية المجانية هذه، فنجعلها ممتدة في سنوات التعليم كلها، ولا نقصرها على التعليم الأساسي وحده!

إننا متساوون في إتاحة الفرصة، وفي مجانيتها، وفي إجباريتها.. غير أن هذا كله، مع أهميته، ليس هو الموضوع، إذ يبقى العنصر الحاسم في المقارنة، هو مستوى الفرصة نفسها حين تتاح، وإزاء هذه النقطة تحديدا، فإن المقارنة تميل لصالحهم دون جدال، وليس هناك وجه للمقارنة بيننا وبينهم إذا ما تكلمنا عن «مستوى» متاح هناك.. وغير متاح هنا..

زمان، وعند البدء في إقرار مجانية التعليم في القاهرة، كان «المستوى» قائما ولو بنسبة ما.. ولكن، ظلت الأعداد الذاهبة إلى المدارس والجامعات، تتزايد بحكم طبائع الأمور، دون أن تتوازى معها في اللحظة ذاتها، إمكانات تكفل إبقاء مستوى الخدمة التعليمية عند أصلها الأول، فراح المستوى يتراجع، لأن ما كانت تنفقه الدولة، على مليون طالب، مثلا، أصبحت تنفقه هو نفسه على أضعاف أضعاف هذا العدد، وتم اختزال الأمر، في النهاية، في إتاحة مكان لكل طالب في مدرسة أو جامعة.. أما شكل المكان، وأما مستواه، وأما الإمكانات المتاحة فيه للطالب، فليست من بين الأولويات.. وهذا، بالضبط، هو الفارق بين التعليم، في العاصمتين، القاهرة، وطوكيو، ثم إن هذا بالضبط أيضا، هو سبب عجز متزايد في ميزانية هناك يعرف واضعوها أن عليهم التزامات في الكيف، لا الكم وحده، تجاه مواطنيهم!

أما الرعاية الصحية، فالصورة فيها متطابقة تقريبا، مع الصورة في التعليم، بالإضافة إلى أن اليابان تواجه منذ سنوات، تراجعا في معدل الإنجاب، وارتفاعا في متوسط الأعمار، بما يجعل كبار السن أكثر عددا ممن سواهم، ومن الطبيعي أن تحتاج الرعاية الصحية، لكبار السن، ميزانية أعلى، كلما ارتفع عدد الذين تتوجه إليهم هذه الخدمة الصحية، خصوصا أن الخدمة مقترنة بمستوى معين لا يمكن التفريط فيه، ولذلك نستطيع أن نتفهم لماذا تغري الحكومة اليابانية، المواطنين، بالإقبال على الإنجاب، وتكافئ الذين ينجبون منهم أطفالا أكثر، بمنح شهرية!

غاية القول إن إتاحة الفرصة وحدها، في التعليم، دون الحرص على مستوى متميز لها، يؤدي إلى إنتاج مواطن عبء على بلده.. أما اقتران الفرصة بمستوى متقدم، فإنه يحوِّل المواطن، من عبء، إلى عون لوطنه، وإضافة.. وهذا هو الدرس!