العزاء الوحيد

TT

التقيته صدفة في الجادة الخامسة (بنيويورك) - ورب صدفة خير من ألف ميعاد - وقبل أن أدخل في الموضوع لا بد أن أعطيكم فكرة موجزة عن تاريخ ذلك الرجل الذي التقيته؛ فهو كان مجرد (سمسار) عقاري بسيط لم ينَل من العلم والثقافة إلا النزر اليسير، غير أن (بلية) الحظ قد ضربت عنده مثلما يضرب الحظ أحيانا مع لاعب (الروليت)، وإذا به ما بين ليلة وضحاها يصبح من طبقة الأثرياء - واللهم حسد فوق حسد - المهم أنني أنا الذي أخذته بالأحضان، وسألني: إلى أين أنت ذاهب؟! فقلت له وأنا أريد أن أخفف دمي: (إلى حيث ألقت أم عمرو). فلم يضحك، لكنه عرض عليَّ أن أرافقه للعشاء، فلبيت دعوته على الرحب والسعة، وكيف لا ألبي وهو الكريم الذي يرفض دائما بكل إباء وشمم أن يدفع أحد فاتورة الحساب غيره؟ وتحولت وجهتي، بقدرة قادر، من الجنوب إلى الشمال، غير أن ما لفت نظري أن هناك ثلاثة مصورين كانوا يتراكضون ويتقافزون أمامنا كالقردة وهم يلتقطون لنا الصور طوال مسيرتنا، وبعد العشاء، وعندما ذهب ذلك المليونير إلى (التواليت) لأمر ما، استغللتها فرصة وانتحيت بأحد مرافقيه لأسأله عن هؤلاء المصورين، فعرفت منه أن هناك وكالة لتأجير المعجبين، تماما كوكالة تأجير السيارات، وكل ما عليك أن تدفع المبلغ المتفق عليه وحسابهم بالساعة، وهم يقدمون لك معجبين بالأجر ومصورين وينشرون بالصحف.

فوقفت لا شعوريا مصفقا وأنا أقول: يا بختي، معنى ذلك أن صورتي مع عمك سوف تظهر في الجرائد؟! فهز رأسه دون أن يجيبني لأنه ساعتها لمح عمه وهو مقبل علينا وخارج لتوه من (التواليت) ولاحظت أن وزنه قد خف كثيرا.

وبعد أن ودعتهم ذهبت إلى فندقي ولم أنم تلك الليلة متشوقا لرؤية صورتي في إحدى الجرائد، وفي الصباح الباكر أخذت أقلب بشغف وهبل صفحات الجريدة المرمية خلف الباب (عل وعسى أن أجد صورتي)، لكن أملي خاب لأنني لم أجد غير صور رجال السياسة والاجتماع، وفي الصفحات ما قبل الأخيرة شاهدت صور فتيات (الاستربتيز) تزينها، وكان هذا هو عزائي الوحيد الذي عشت عليه طوال يومي وليلتي كذلك.

وبعيدا أو قليلا عن خيبة الأمل، هناك مثل شعبي دارج يقول: اللي عندها حنة تحني (.........)، وما دام ذلك المليونير لديه (حناء) - أي أرصدة من الملايين - فله الحق ولا ضير عليه، والحال كذلك، لو أنه استأجر المصورين والصحافيين ليتابعوه أينما تحرك ويكتبوا عنه ويمدحوه.

ولو أنني كنت في مكانه لفعلت أكثر مما يفعل، فعندها سوف أطلب من الشركة المتخصصة بذلك أن تجمع حولي المعجبات والمعجبين أينما ذهبت، لأوقع للبعض على (الأوتوغرافات)، بينما يهتف الآخرون باسمي.

إن كلامي هذا ما هو إلا نوع من أضغاث أحلام اليقظة؛ فربي سبحانه (عارف الشوكة وداقمها)، وأنا على الأقل متعايش مع حالي، مثلما يتعايش المريض مع آلامه، ويا بختي على حالي المطين.

[email protected]