قدّمه سيد قطب

TT

كان سيد قطب أول من قدم نجيب محفوظ إلى القارئ المصري، وأول من بدأ بإلقاء الضوء على موهبته الأدبية. وبعدما حاز محفوظ «نوبل» للآداب وترجمت رواياته إلى لغات العالم تقدم منه رجل يفكر بالسكين فرحب به أديب مصر: أهلا. أهلا. فكان أن طعنه هذا في عنقه. ولما سئل صاحب السكين عن دافعه قال لأن نجيب محفوظ كتب «أولاد حارتنا». فلما تبين أن صاحب السكين أمي لا يقرأ حتى اسمه، قال إنه شاهد «أولاد حارتنا» فيلما. وهي لم تصور في فيلم ولم تطبع حتى كتابا في مصر!

في مقابلة مع فصلية «إبداع» يحاول علاء الأسواني أن يدلنا على ما قد لا ننتبه إليه في «عميد الأدب العربي» الثاني بعد طه حسين. يقول إن بعض الأدباء من يرتاد وبعضهم من يطور، ومحفوظ وحده كان الرائد والمطور معا. وكان الوحيد الذي ترك كل شيء من أجل أن يكون روائيا. فقد عرض عليه مصطفى أمين مرة الكتابة في «أخبار اليوم» مرتين في الشهر لقاء ثلاثة أضعاف راتبه، فاعتذر قائلا: «إن ذلك سيغير نمط حياتي ولن يبقي لي وقتا للكتابة». وبعدما عينه ثروت عكاشة رئيسا لمصلحة السينما في وزارة الثقافة، جاء معتذرا: «لقد أخذت الوظيفة مني وقت الكتابة، فأرجو إعفائي».

كان نمط حياة نجيب محفوظ كتابا آخر، أو رواية أخرى: تواضعه الذي لم تؤثر فيه شهرة ولا أضواء ولا ألقاب. ومعيشة على مقربة من مصر وبسطائها. وصمود ماسي ذهبي فولاذي نادر في وجه مغريات الزمن والسياسة. فطالما أعلن أنه أحب مصر وسعد زغلول معا، لأن سعد زغلول كان صورة مصر. ثم عايش من بعد عبد الناصر والسادات ومبارك، الثورات والتحولات والحروب، وبقي زعيمه سعد زغلول، الرجل الذي جاء بالاستقلال من دون أن يأخذ الحرية. من دون أن يأخذ شيئا. كان أبا المصريين، ومثل كل أب لم يطلب شيئا في المقابل.

عندما أتذكر ما أستطيع أن أتذكر من روايات نجيب محفوظ يخيل إليّ أنها تشكل، مجتمعة، دليلا هاتفيا لمصر. عشرات الأسماء، عشرات العناوين، عشرات البيوت، عشرات الحارات، عشرات المكاتب. ولكل واحدة قصصها وحكاياتها ونفوسها. لم يفتح أحد كتاب مصر كما فعل. ولعله رسم لذلك منذ اللحظة الأولى، واختار أن يبقى موظفا بسيطا لكي يبقى شاهدا عظيما، وليس أن يكون عثمان بيومي آخر، الموظف الذي يصبح مديرا عاما في «حضرة المحترم».

لم يخرج نجيب محفوظ من دارته ولا من مقهاه ولا من حارته، وخصوصا من خلقه. ولم يرد على النقاد ولا على السلطة. ولم يخرج إلى «نوبل» حتى عندما جاءت إليه.