تركيا: دموع نديم شنير

TT

بعد 375 يوما أمضاها في السجن، قررت محكمة الجزاء في إسطنبول إطلاق سراح نديم شنير، الصحافي التركي الذي اعتقل بتهمة التخطيط للمشاركة في العملية الانقلابية التي قادها كبار ضباط القوات المسلحة التركية ضد الحكومة.

القاضي، الذي أصدر قرار الإفراج عنه ومتابعة المحاكمة مكتفيا بإلزامه بالإقامة الإجبارية وعدم مغادرة البلاد، قال: إن السبب هو احتمال تغير نوع التهمة الأصلية الموجهة إليه خلال صدور قرار سجنه قبل أكثر من عام. هل يعني ذلك أن شنير، الذي أمضى هذه المدة كلها في السجن قد لا يحاكم بعد الآن بتهمة التخطيط والمشاركة في قلب النظام وإسقاط حكومة العدالة والتنمية والتآمر على وحدة البلاد واستقرارها؟

شنير، الذي نال العشرات من الجوائز وشهادات التقدير العالمية بسبب أكثر من إنجاز مهني قدمه خلال عمله الصحافي، والذي ردد أكثر من مرة أنه بريء من هذه التهم كلها، وأنها محاولة يريدها البعض للانتقام منه بسبب المسائل الحساسة التي تطرق إليها وأزعجت البعض، يبدو أنه نجح في التأثير على الرأي العام التركي الذي بدأ يطرح أسئلة ليس فقط حول تناقضات اعتقاله وإطلاق سراحه، بل حول مسار محاكمة العشرات من المعتقلين في السجون بتهم الانتماء إلى أرغنيكون والمطرقة. العلاقة بين السلطتين القضائية والسياسية تعود مرة أخرى إلى واجهة النقاشات في تركيا، وشنير وما يقوله يوميا يسهمان في تأجيج ذلك كله.

دموع شنير أمام عدسات الكاميرا، وهو يروي أيام وجوده في السجن وظروف الاعتقال والحياة هناك، تعيد الأتراك إلى ما قبل عشر سنوات عندما وقفوا إلى جانب حكومة «العدالة والتنمية» وتحركوا باتجاه إيصالها إلى موقع القيادة بسبب الإجحاف والتهميش والعزل التي عانتها نتيجة مواقف وسياسات الأحزاب العلمانية المتشددة ومواقف بعض العسكريين الأتاتوركيين المتشددين.

سخرية القدر هي أن يكون رجل القانون والسياسي المخضرم بولند أرينش، المشرف على الإعلام الرسمي وقنوات التلفزة الحكومية وأهم قيادات حكومة «العدالة والتنمية»، أول المتصلين بشنير لتهنئته على خروجه من السجن، مبديا تعاطفه معه، وأن يكون شنير نفسه يحاكَم بتهمة التخطيط لإسقاط هذه الحكومة!

«أكثر ما اشتقت إليه هو أن أوصل ابنتي إلى مدرستها كما كنت أفعل كل صباح.. هم بحثوا عن أدلة إدانتي بين كتبها وفروضها المنزلية. على الرغم من أنهم لم يتمكنوا، قبل أعوام، من دخول منزل النائبة الإسلامية مروة قواقجي، التي عارضنا جميعا، يومها، معاملتها بهذه الطريقة.

ابنتي الصغيرة خلعت التنورة ولفت كنزتها حول ساقيها أمام عناد جهاز التفتيش الإلكتروني ولم يسمحوا لها بزيارتي ورؤيتي.

هم أرادوا أن يجعلوا منا إرهابيين بالقوة، فلم نقدم لهم هذه الفرصة. بعض الزملاء يجلس على مقعده المريح في شقته الفخمة يكتب عن الإصلاحات في السجون وظروف السجناء التي تتحسن يوما بعد الآخر، أتحداهم أن يبيتوا هنا ليلة واحدة ويتناولوا الطعام الذي كان يقدم لنا.

نعم أطلق سراحي، لكني لن أفرح، فهناك زميلة لنا في قاووشها الكبير ترتجف من البرد وتنتظر لحظة الإفراج عنها».

الإعلامي التركي جان دوندار يقول: إن رسائل شنير، الذي يتحدث عن الحرية والعدالة في هذه الأيام بصوت خافت جدا بسبب جدران السجن التي كانت تحبس الصوت وتردده صدى في المكان، هي مسموعة ومؤثرة أكثر من صراخنا اليومي نحن؛ حيث لا يسمعنا أحد؛ فأصواتنا تتبخر وتزول دون أي قيمة.

القرار النهائي سيكون للقضاء طبعا، لكن هذا لن يمنعنا من القول إن قسما كبيرا من الرأي العام التركي تعاطف بشكل أو بآخر مع شنير وأزعجته الصورة التي قدمها وهو ينقل تفاصيل موجعة من هذا النوع، وإن مهمة بولند أرينش، الرجل الثاني في حكومة أردوغان، ستكون بالغة الصعوبة في قطع الطريق على موجة تتفاعل وتكبر في تركيا، تريد أن تعرف تفاصيل أكثر عن ظروف وأسباب اعتقال وسجن العشرات من الضباط والمفكرين والأكاديميين المتهمين بقلب النظام، الذين ينتظرون، بفارغ الصبر، نتائج محاكماتهم التي تتقدم ببطء وهذا ما يقبله ويسلم به الجميع في تركيا.

الرئيس التركي عبد الله غل يقول إن المحكمة التي أصدرت قرار الإفراج عن شنير أسهمت في ترسيخ صورة الديمقراطية المنتشرة في البلاد، و«العدالة والتنمية» يصر على أنه لعب دورا كبيرا في إيصال تركيا إلى ما هي عليه اليوم من مساحات واسعة من الحريات والنقاش والتعبير، لكن التساؤل الأهم يبقى حول معرفة ما إذا كانت خطوة الإفراج عن شنير هذه ستسهم في إطلاق مصالحة حقيقية بين الرأي العام التركي والإعلام والقيادات السياسية المنقسمة المواقف حول موضوع المؤامرة ضد حكومة أردوغان، أم أن تصفية الحسابات لم تكتمل بعدُ؛ فشنير نجح في دفع البعض للكتابة باتجاه المقارنة بين ما يجري في سجن سيلفري، الذي يجمع قيادات أرغنيكون والمطرقة، وما شهده سجن دياربكر الشهير في جنوب شرقي تركيا، الذي كان مسرحا للمئات من عمليات الاعتقال والتوقيف والتعذيب بعد انقلاب الثمانينات الذي نفذته المؤسسة العسكرية وقتها.