وداعا البابا شنودة

TT

لم يكن مجرد رجل دين عادي، بل إنسان من طراز فريد؛ شاعر مرهف الحس يقرض الشعر؛ مثقف يقرأ بنهم في كل المجالات فضلا عن تخصصه الدقيق في علوم اللاهوت وعلم الآثار. ولم تكن دراسته للآثار هي سبب انجذابي لشخصيته ولكنها مواقفه في ظروف صعبة قد لا يتحملها البشر العادي، واستطاع هو بهدوئه وثقافته وخبرته للحياة وأحوال الناس أن يحمي مصر والمصريين من الفتن والوقيعة بين مسلميها وأقباطها.. علمنا البابا أن «مصر ليست وطنا نعيش فيه وإنما وطن يعيش فينا»؛ قالها وعمل بها طوال أربعة عقود جلس فيها على كرسي البابوية والكرازة المصرية.. أبا لكل المصريين، اتسع قلبه لمشكلات 80 مليون مصري، كان سريع البديهة حاضر النكتة كطبيعة المصريين، وعلى الرغم من ثقافته كان يتحدث إلى كل إنسان على قدر ثقافته ووعيه.

قابلت البابا شنودة الثالث كثيرا؛ سواء للتهنئة بأعياد إخواننا الأقباط أو في افتتاحات أثرية وكان دائما مبتسما غاية في الهدوء لدرجة تشعر معها أن الرجل ليس لديه أي أعباء أو جدول أعمال ومواعيد مزدحم وذلك على غير الحقيقة.. درس التاريخ وعمل مدرسا لهذه المادة في بداية حياته ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثيرون أنه كان يعشق الآثار ولذلك فقد أكمل دراساته العليا في الآثار المصرية والتي جعلته يذوب حبا وعشقا لمصر وحضارتها.

أذكر عندما أصبحت مسؤولا عن الآثار في مصر كان شغلي الأول هو عمل تقييم شامل لحالة الآثار المصرية؛ لا نفرق هنا بين أثر فرعوني أو يهودي أو قبطي أو إسلامي، وكانت حالة بعض الأديرة والكنائس الأثرية حرجة وتستدعي التدخل العاجل ببرامج ترميم علمية للحفاظ عليها؛ ووجدت كل الدعم والتشجيع من الرجل الذي كان في كل مناسبة يتعمد توجيه الشكر والمديح لما يقوم به الأثريون والمرممون في لمحات ذكية لكي يشجع على مزيد من العمل والجهد. كنت أتمنى أن يحضر الافتتاح الجميل لدير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر والذي كان مجرد أطلال وعاد على أيدي مرممين مصريين أحد أجمل الأديرة المسيحية في مصر وحالت حالة البابا الصحية دون الحضور؛ لكني قابلته بعدها داخل المقر البابوي وجلست معه نحو ساعة كاملة وبدأ حديثة كعادته بالسؤال عن الصحة وأحوال الأسرة والعمل كأب يسأل عن أبنائه وقال إن مجهود الأثريين والمرممين واضح يقدره الأقباط والعالم كله، وضحكت معه وأنا أقول له إن هناك كثيرا من المصريين يعتقدون أنني قبطي لدرجة أن «موسوعة مشاهير الأقباط» التي نشرت في جزأين قاموا بوضع اسمي بين هؤلاء المشاهير، ووجدته يقول إن دراسته للآثار أكدت له أن كلمة قبطي تعني «مصري».

مات البابا.. لكنه خلف وراءه علما وقيما ومنهجا للحياة وترك تلاميذ أتمنى أن يحملوا رسالته دوما.. رسالة الحب والسلام.