انج سعد فقد هلك سعيد

TT

هذا أمر عجيب! كل ما أكتبه على سبيل المزاح، أراه يصبح واقعا عمليا بعد أيام. كتبت عن تصدير المواطنين، حيث تتعاظم كثافة السكان، وإذا بي أسمع بأن الموضة الرائجة الآن بين الطبقة المتوسطة في العراق وغيره ممن لهم أولاد، هي أن يهاجروا ويعدوا أولادهم للغربة. الفكرة هي أن الحياة في هذا البلد الغني العريق الحسب والنسب، أصبحت لا تطاق ولا تساوي شيئا. أخذ الآباء الحريصون على مستقبل أولادهم وسعادتهم يبادرون إلى تصفية ممتلكاتهم ويخرجون بأموالهم إلى الغرب. الدولة الأولى المرشحة لهذا الغرض هي كندا التي تعطي إقامة، ثم جنسية لأي أجنبي يجلب معه المبلغ المحدد. المعدمون منهم يذهبون إلى الأردن ويسجلون كلاجئين وينتظرون حتى تجد لهم منظمة اللاجئين ملجأ يقبلهم. وفي هذه الحالة تحتل أستراليا المرتبة الأولى. فأستراليا هي البقعة التي كان الإنجليز يصدرون لها المتخلفين والجانحين وكل المغضوب عليهم والميؤوس منهم.

وهكذا أصبح واجب الآباء حالما يرزقون بطفل هو أن يعلموه ويدربوه على الحياة خارج وطنه. تراهم يركزون على تعليمه اللغة الإنجليزية على حساب العربية وقراءة قصص بيتر رابت بدلا من المصحف الشريف. ترى الأم تصفق لولدها عندما تعطيه كعكة «كادبري» ويقول لها «ثانك يو»، أو عندما يبول على سرواله ويقول لها «سوري مم». ويجلس الآباء في المقهى ويتبجحون ويتباهون: «والله ابني اليوم قرأ صفحة كاملة من شكسبير». ويرد عليه الآخر: «مبروك، مبروك أبو جيمس، أنا ابني مايكل مفطور على الرياضيات. صار يعد: ون، تو، ثري، للعشرة ولا يغلط».

وهذه مشكلة أصبحت تواجههم. موضوع الأسماء. وجدوا أن أطفال الأجانب يسخرون من الطفل عندما يحمل اسما عربيا كحسين وعبد الله. فأخذوا اليوم يبحثون عن أسماء ليس فيها أي نكهة إسلامية أو عربية. فما الفائدة من تعليم الطفل اللغة الإنجليزية إذا كان اسمه ضيغم أو جويسم أو عبد المطلب؟ هذا كله ضروري لإعداد الطفل للحياة خارج وطنه. فينشأ وروح الاغتراب متأصلة فيه ولا يزعل إذا سخر منه أو احتقره الأولاد الإنجليز.

سيتساءل القارئ كيف نمت هذه الروح المهاجرة في نفوس المواطنين العرب؟ أعتقد أن التلفزيون مسؤول عن هذا القرف والاحتقار للحياة في أوطاننا العربية. أصبح الناس يرون كيف يعيش الغربيون سعداء، كيف يعاملون أولادهم بالرقة والمحبة، كيف تركب بناتهم الدراجات وتسوق نساؤهم القطارات والحافلات، كيف تحترم حكوماتهم حقوق المواطن. أعتقد أن من الضروري لقمع روح الهجرة في مواطنينا أن نمنع محطات التلفزيون من عرض مثل هذه اللقطات. على مديريها أن يمنعوا عرض أي فيلم ينم عن احترام الشرطي للمواطن، وأي مشهد يضحك فيه الأولاد ولا يبكون، أو صبي يركب دراجة وتركب وراءه شقيقته الصبية. الرقباء عندنا يضيعون وقتهم في منع الصور والكليبات الخلاعية. هذا المنع في رأيي مضيعة وقت. فليس بيننا من تجرؤ على الخروج من بيتها بالمايوه أو الشورت. ولكن منظر طفل سعيد يضحك أو قصة فقير مقعد يحصل على معاش من الدولة فيه الخطر الجسيم ويغرس فينا روح الهجرة وكره أوطاننا.