سوريا.. إلى أين؟

TT

في الحقيقة ليست سوريا وحدها هي التي تستدعي هذا السؤال، وإنما كثير من أقطار العالم العربي تستدعي ذات السؤال أيضا، حتى الدول التي نحب أن نطلق عليها بلاد «الربيع العربي» هي الأخرى نتساءل حول أوضاعها الراهنة ومصيرها في المستقبل. على كل حال، فإن سوريا تمر بأكثر الأوضاع خطورة ومثارا للقلق والتساؤل.

حقيقة إلى أين تتجه سوريا الآن بعد كل حمامات الدم التي غرقت فيها طوال أكثر من عام بغير توقف، أكثر من عشرين ألف سوري تركوا ديارهم وأوطانهم إلى بلاد مجاورة، وكان لتركيا منهم النصيب الأوفر، وأكثر من سبعة آلاف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى، وعدد لا يحصى من المعتقلين في ظروف قاسية بشعة ليس إلى وصفها من سبيل.

هل من الممكن أن يستمر ذلك وقتا طويلا؟

أظن أن ذلك من المستحيل ومما يرفضه منطق التاريخ، الشعوب عندما تتحرك على هذا النحو وعندما تتصدع العلاقة بينها وبين من يحكمونها إلى المدى الذي وصلت إليه سوريا الحبيبة، فإنها تؤذن - طال الزمن أو قصر - بنهاية الطغيان وبتحرر الشعوب، وأظن أن الحاكمين في دمشق لا يدركون أن مصيرهم سيتحدد على نحو قريب مثلما حدث في تونس بالهرب، أو في ليبيا بالتصفية الجسدية، أو في مصر بالمحاكمة المهينة المذلة.

ولكن لماذا يكون مصير الحكام العرب أو الحكام الطغاة على هذا النحو دائما ولا يكون كذلك مصير الحكام في البلاد الديمقراطية؟

في فرنسا الآن أكثر من رئيس جمهورية سابق يعيش بين الناس آمنا، بل إن منهم من يساهم في الحياة العامة بقدر ما تسمح له صحته وإمكانياته.

وفي الولايات المتحدة نرى كارتر وكلينتون وبوش الأب وبوش الابن، منهم من يساهم في الحياة العامة بنصيب، ومنهم من له حضور عالمي مثل كارتر، ويعيشون بين مواطنيهم مكرمين يحبهم البعض وينتقدهم البعض، ولكنهم في كل الأحوال يعيشون مواطنين بين أبناء وطنهم لا مطاردين من مقهورين ثائرين غاضبين.

لماذا هم هكذا ونحن هكذا؟ سؤال يحتاج إلى جواب لعله يهدينا في مستقبلنا القريب والبعيد، والجواب بسيط وواضح، ولكننا لا نريد أن نواجهه بصراحة أو نقتنع بمنطقيته الواضحة.

في الأنظمة الديمقراطية هناك شيء اسمه تداول السلطة، الشعب يختار هذا الرئيس فيأتي هذا الرئيس، الشعب يريد أن يغيّر فيتم التغيير بسلاسة وفقا للقواعد الموضوعة. والأنظمة الديمقراطية ترفض تأبيد السلطة في شخص أو أشخاص معينين، دساتير البلاد الديمقراطية تنص عادة على المدد التي يبقاها الرئيس في منصبه، مثلا في الولايات المتحدة كان العرف يجري على ألا يبقى رئيس الجمهورية في منصبه غير مدتين اثنتين، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى وخلال الأزمة الاقتصادية حاول الرئيس أن يرشح نفسه لمرة ثالثة، هنا تدخل المشرع الدستوري وصدر تعديل ينص صراحة على أن ولاية الرئيس لا تتجاوز فترتين.

في البلاد الديمقراطية الأخرى لم يحدث أن بقي رئيس جمهورية في الحكم طوال حياته، هذا يحدث في الملكيات فقط، والملكيات في النظام الديمقراطي - مثل إنجلترا والسويد وإسبانيا - ملكيات تملك ولا تحكم، وليس لها من السلطة قليل أو كثير.

ولكن عندنا في «الجمهوريات الملكية» - كما أطلقت عليها منذ سنين - نحتفظ باسم «الجمهورية» ونعطيها مضمونا ملكيا، بمعنى أن تستمر السلطة مع الرئيس ما بقي حيا ثم تنتقل بعد ذلك إلى الوريث الذي يريده السيد الرئيس باعتباره يحكم باسم الله على الأرض.

وقد أراد الرئيس حافظ الأسد أن يخلفه - على العرش - ابنه الأكبر، ولكن القدر أراد أن يلقى ذلك الابن منيته في حادث سيارة، فلما توفي الرئيس حافظ الأسد عدل الدستور في ساعات لكي يسمح لبشار الأسد بأن يلي العرش بعد والده، وكان بشار عمره أربعة وثلاثين عاما، فعدل الدستور - بغباء - وكان يمكن أن يقول أن يكون عمر الرئيس أكثر من ثلاثين عاما، ولكن ضيق الأفق والعجلة جعلتهم ينصون على أن يكون الرئيس قد بلغ «الرابعة والثلاثين»، لأن خليفة جلالة الملك كانت هذه سنه.

وعندنا في الجمهوريات الملكية يدرك الرئيس جيدا أنه إما أن يكون ممسكا بزمام كل السلطات متحكما في كل الثروات والمناصب والمؤسسات أو أنه إذا فقد منصبه فليس هناك مكان غير القبر أو القتل أو السجن أو النفي.

وتقديري أن الرئيس بشار أمامه عدد من الخيارات، واحد منها مستبعد لأنه لا يتفق مع منطق الجمهوريات الملكية، هذا الخيار هو أن يحدث إصلاح دستوري حقيقي وينتهي حكم بشار بتنحيه اختيارا عن السلطة وذهابه إلى حيث يشاء من أقطار الأرض. هذا فرض غير وارد عند هذه الأنظمة، والخيارات الأخرى المتاحة هي خيار زين العابدين بن علي أو خيار القذافي أو خيار حسني مبارك. وللرئيس بشار الحرية في أن يختار إحدى هذه النهايات الثلاث.

هل تستحق سوريا الحبيبة هذا الذي يحدث على أرضها من ترويع وقتل وسفك دماء. لم أحب مدينة عربية بعد القاهرة قدر ما أحببت دمشق، ولم أشعر بأنس وراحة في مدينة عربية قدر ما أحسست به في دمشق.

لهذا كله أحس بالحزن العميق على ما يجري في سوريا وما يحدث في دمشق. وأذكر أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي يصف ما حدث لدمشق تحت حكم جمال السفاح أيام العثمانيين، أسمعه يقول في حزن كالحزن الذي نعيشه هذه الأيام الكئيبة:

سلام من صبا بردى أرق

ودمع لا يكفكف يا دمشق

ومعذرة اليراعة والقوافي

جلال الرزء عن وصف يدق

وبي مما رمتك به الليالي

جراحات لها في القلب عمق

وصدق أمير الشعراء في تعبيره عما نحس به من حزن عميق على دمشق الحبيبة وسوريا الغالية.