قراءة التراث العربي الإسلامي

TT

نحن اليوم، في وطننا العربي الإسلامي، أحوج ما نكون إلى مراجعة شاملة للأرضية الثقافية التي نقف عليها، ولولا الخوف من الوقوع في الابتذال لقلنا إننا في حاجة إلى ثورة. ومن هذا المنبر قلنا، أكثر من مرة واحدة، إن أحد أهم الدروس التي نفيدها من هذا الحراك العربي هو وجوب التماس العماد الثقافي لهذا الانتفاض العربي، الذي يبدو أنه سيعم العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، وأن هذا العموم سيتخذ أشكالا تختلف باختلاف البنى الاجتماعية والثقافية، وباختلاف قدرات الأنظمة العربية على التفاعل مع هذا الحراك العربي. في هذا المعنى كان حديثنا، قبل أسابيع قليلة، عن النهضة العربية الثانية وإمكانها، وعن العوائق التي تقوم في وجهها، وعن العماد الثقافي الذي تفتقده حركات الانتفاض العربية هذه. ونريد اليوم أن نعرض لجانب من جوانب هذا العماد الثقافي المفقود والمأمول معا.

تقتضي النهضة (عموم النهضة) في جملة ما تقتضيه، القيام بمراجعة للذات على نحو يكون القصد منه استمداد التراث الثقافي للأمة. ذلك ما وجدنا أن رجال النهضة الأوروبية قد قاموا به في القرن السادس عشر، ووجدنا أن اليابانيين قد قاموا به في القرن التاسع عشر في عصر الميجي، والعمل ذاته كان متضمنا في فكر رجال النهضة العربية الإسلامية في الفترة التي امتدت بين منتصف القرن التاسع عشر وثلاثينات القرن العشرين. وهذه الحركة الأخيرة تضمنت دعوة إلى إعادة الاعتبار لما اندثر، أو كاد، من الفكر العربي الإسلامي وغلفته عهود الانحطاط بستائر سميكة من النسيان. من ثم كان الإقبال على إحياء نصوص عظيمة من تراثنا العربي الإسلامي، فكانت الدعوة إلى نفض الغبار عن «مقدمة ابن خلدون» و«موافقات» الشاطبي وعن كتابه «الاعتصام»، وكذلك كان الإقبال على كتب مسكويه والغزالي، وعلى ما أمكن حفظه من أمهات في علم الكلام مثل «المغني في أبواب العدل والتوحيد» وبعض من كتب إمام الحرمين.. وغيرها كثير.

ما حدث هو أن حركة إحياء هذه النصوص العظيمة كانت متزامنة مع جملة أمور، منها بداية النشاط الكثيف للمطبعة العربية في مصر والشام، ومنها حرص علماء التنوير العرب المسلمين (والقصد منهم جمال الدين الأفغاني وتلامذته العرب وأخصهم محمد عبده) على بعث النصوص الأصيلة من جنس ما لمحنا إليه أعلاه، مع المعارضة الشديدة التي أظهرها علماء الأزهر، والتي سيظهرها بكيفية أشد العلماء المغاربة في القرويين وعلماء الزيتونة في تونس، ومنها، أخيرا، ما سار فيه طلبة البعثات العربية الأولى إلى الجامعات الأوروبية من قراءة لتلك النصوص العربية الإسلامية في ضوء ما اطلعوا عليه من معارف ومناهج جديدة عليهم.

إذا ما نظرنا في الدراسات الجامعية التي تقدم بها الطلبة العرب في الجامعات الأوروبية قصد نيل شهادات الدكتوراه، وكانت على العموم أبحاثا تتصل بفكر مفكر من مفكري الإسلام الكبار، فنحن نجد أنها لم تكن تخلو من الوقوع في أحد مزالق ثلاثة، وبالتالي لم تسلم من شرك آفة من الآفات الثلاث التي سنذكرها مباشرة. الأولى هي آفة الحماسة العافية الشديدة، وهذه آفة تعشي البصر وتشوش الرؤية، ومن ثم فهي ترى في كل النابهين من مفكرينا متقدمين على اللاحقين عليهم، الذين فكروا وتأملوا ثم كتبوا ما كتبوه قرونا كثيرة بعد هذا المفكر المسلم أو ذاك. والآفة الثانية هي آفة الذهول عن الأسباب الموضوعية (التاريخية، والاجتماعية، والمعرفية) التي جعلت ظهور علم ما جديد ظهورا ممكنا، والمثال الواضح في هذا الصدد هو مثال مفكرنا العظيم عبد الرحمن بن خلدون، فكثير من الباحثين العرب المعاصرين قد رأوا في صاحب «المقدمة» مؤسسا لعلم الاجتماع، والحال أن هذا العلم لم يظهر على الحقيقة إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. الآفة الثالثة هي آفة الوقوع في شرك مقارنات غير منطقية ولا مقبولة من الناحيتين المعرفية والتاريخية، وكم في الفكر العربي المعاصر من دراسات من هذا القبيل تجمع في صعيد واحد بين ديكارت والغزالي، وبين ليبنتز وابن عربي، وبين هيوم والغزالي، والقائمة طويلة. وهذه الآفة الأخيرة نتاج التفاعل بين أمرين اثنين في حقيقة الأمر: ردة الفعل على محاولات استعمارية استعلائية تسعى إلى تحقير الفكر العربي الإسلامي والتقليل من خطره، فهي محاولات تغرق في نزعة المركزية الأوروبية. فما قام به بعض مثقفينا العرب (من حماس في القول بأسبقية مفكر مسلم من القرن الهجري الرابع أو الخامس على مفكر غربي من القرن الثامن عشر أو السابع عشر) أمر مشروع من الناحية الآيديولوجية، فهو مبرر كل التبرير، وهو كذلك أمر مفهوم من الناحية السيكولوجية، غير أنه أمر لا يستقيم من جهتي المعرفة والتاريخ. والأمر الثاني تجريد الأفكار من السياق التاريخي الذي جعل ظهورها ظهورا ممكنا، وصرف المباحث عن المجرى الذي وردت فيه. من قبيل ذلك ما كتب وقيل عن المقارنة بين أزمة الشك التي كادت تعصف بأبي حامد الغزالي كما يتحدث عنها في «المنقذ من الضلال»، وبين الشك المنهجي الذي رسمه ديكارت لنفسه طريقا إلى الصواب في كتاب «مقال في المنهج» أولا، ثم في كتاب «تأملات ميتافيزيقية» ثانيا.

في اللحظة التاريخية التي يعيشها الإنسان العربي اليوم يجد الفكر العربي نفسه في حاجة أكيدة لاستحضار تراثنا العربي الإسلامي في جوانبه المنيرة، وفي مناحيه التي تحمل على الاقتباس والإفادة منه في حياتنا المعاصرة. لا نقصد بالتراث فكر مرحلة دون غيرها، بل نحن نعد تراثا عربيا إسلاميا كل إنتاج فكري تفصلنا عنه عقود قليلة أحيانا، فليس من الضروري أن يكون الفاصل قرونا كثيرة. في هذا المعنى يكون مجموع الإنتاج النظري للمفكرين العرب في عصر النهضة (مسلمين ومسيحيين على السواء) تراثا عربيا إسلاميا، شأنه في ذلك شأن ما كتبه الفارابي في القرن الهجري الرابع، أو الماوردي أو الغزالي في القرن الهجري الخامس، أو ما كتبه ابن خلدون في القرن السابع للهجرة. نحن في حاجة إلى استلهام كل الجوانب المضيئة التي تعودنا على التفكير السليم، وتنمي فينا ملكة النقد والإبداع، وتوجهنا نحو الإقبال على الحياة والانفتاح على الغير المخالف لنا والمختلف عنا في العادات والسلوك، غير أننا في حال مغايرة بالكلية لتلك الحال التي كان عليها مفكرونا في ثلاثينات القرن الماضي، مثلما أننا (على العكس مما يتوهمه دعاة الانغلاق ورفض الحوار والغير) في حال لا يتهدد الإسلام فيه خطر بالتشويه والإبادة، إلا أن يكون الخطر من أهل الإسلام أنفسهم.

تحدثنا، أعلاه، عن آفات ثلاث عظمى تتربص بالنظر في التراث العربي الإسلامي، ومن الشجاعة في القول أن نعلن أنه لا واحدة من الآفات السابق ذكرها يتهددنا حقيقة إلا إذا كنا نشاء ذلك ونطلبه.. نحن اليوم في واقع جديد يستدعي قولا جديدا ونظرا مغايرا.