تعددية «ثيوقراطية» في لبنان

TT

هل تجاوزت أزمات لبنان ومشكلاته المعقدة طاقة سياسييه التقليديين على معالجتها، أم أن مناخ ساحته السياسية اليوم يغري غير السياسيين بولوجها، ولو من أبوابها الجانبية؟

مناسبة هذا التساؤل ظاهرة تنامي أعداد رجال الدين الذين يتعاطون الشأن السياسي (ولا نقول المتورطين فيه) وتزايد منافستهم للسياسيين الممتهنين على «الأضواء» وشاشات التلفزيون.

صحيح أن رجل الدين مواطن يتمتع بالحقوق نفسها التي يتمتع بها أي لبناني آخر، وفي مقدمتها حرية إبداء الرأي. ولكن تساويه في الحقوق المدنية مع الآخرين لا يستتبع التساوي في الواجبات أيضا، فلرجل الدين رسالة سماوية خلقية اجتماعية تميزه عن رجل السياسة وتعطيه أفضلية عليه.

وبالفعل لم يخلُ لبنان يوما من رجال دين أتقياء أغنوا بسيرتهم المناقبية، وكانوا قدوة لمن يريد صلاح دينه ودنياه.. فماذا عدا عما بدا حتى غدا بعضهم رسل سياسة قبل أن يكونوا رسل محبة؟

حتى الأمس القريب كان «تدخل» رجال الدين في السياسة يقتصر على كلمة تلقى في عظة الأحد أو مطلب عام يُطرح في خطبة الجمعة.

وفي الثمانينات، ومع تقاطع الخلفيتين القومية والدينية لمفهوم مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، برزت ظاهرة الحزب الديني المقاوم، حزب الله، الذي سعى، بعد جلاء الاحتلال عن الجنوب، إلى جمع السياسة والعمامة تحت سقف واحد في معادلة ما زالت، حتى الآن، صعبة التحقيق.

ولكن يبدو أن أحداث سوريا الأليمة، بما تثيره من هواجس مذهبية في بلد التعددية المذهبية، فتحت الباب واسعا لأن يدلي رجال الدين بدلوهم، ليس فقط في التنظير السياسي بل وفي الحراك الشعبي أيضا.

وهكذا باتت صور العمامة الإسلامية والقلنسوة المسيحية مشهدا مألوفا في نشرات أخبار قنوات التلفزيون اللبنانية، وأصبح رجال الدين منافسين «شرعيين» لرجال السياسة التقليديين على صعيد إطلاق المواقف العامة من كل حدث، داخليا كان أم خارجيا. ولم يعد مستغربا أن يشاهد اللبنانيون اليوم مفتيا يسدي النصائح للسفير السوري في بيروت، وشيخا يقود مظاهرة احتجاج على حملات القمع الدموية للانتفاضة السورية، وسيدا يقترح حلا عمليا لوقف إطلاق النار في سوريا، وبطريركا يسعى إلى بلورة موقف موحد لنواب طائفته حيال الأحداث السورية.

هل زال الفارق في لبنان بين رجال السياسة ورجال الدين (وكلاهما على طرفي نقيض من حيث الرسالة والمصداقية) أم أن لبنان يتجه نحو «تعددية ثيوقراطية» غفل «دستور الطائف» عن دورها في رسم بعض أوجه السياسة اللبنانية؟

أوليس لافتا في الدولة العربية شبه الوحيدة التي لا ينص دستورها على دين رسمي للدولة، أن لا يخرج سياسي واحد، كائنة ما كانت الطائفة التي ينتمي إليها، ليذكّر رجال الدين بأنهم تجاوزوا دورهم في حياة اللبنانيين، إن لم يكونوا استغلوا مواقعهم في ترويجهم لطروحات أبعد ما تكون عن الدعوة إلى البر والتقوى؟

ربما يشكّل صمت السياسيين اللبنانيين عن الدور السياسي المتنامي لرجال الدين اعترافا ضمنيا بتقصيرهم عن بلورة رأي عام «قومي» لا تلعب الخلفيات المذهبية دورا رئيسيا فيه.

وربما تخفي ظاهرة تنامي أعداد رجال الدين اللبنانيين المتدخلين بالحياة السياسية توق اللبناني العادي إلى وجوه جديدة على ساحته السياسية، ولكن الجمع بين الدين والسياسة في لبنان التعددي لم يغنِ السياسة ولم يغن الدين أيضا.

رحم الله سياسيا لبنانيا مخضرما طلب من رجل دين كان يخاصمه ويتعاطى السياسة في أيامه، إما أن يتكلم بلغة «تليق» بلباسه أو أن يرتدي ملابس «تتناسب» مع كلامه.

آنذاك كان الشعار السائد في لبنان: «الدين لله والوطن للجميع».. مؤسف أن يتحول اليوم إلى «الدين لله.. والوطن لحفنة من رجال الدين».