العلاقة المستقبلية بين الأصفر والأخضر

TT

استخدمت مفردتي الأصفر والأخضر للإشارة المجازية لتوصيف العلاقة بين دول الخليج ودول الربيع، وخصوصا شكل العلاقة المستقبلية بينهما، وهي قراءة منطلقة من الأحداث القائمة، ولكنها أيضا تخضع للسؤال الأهم: هل يمكن القراءة الاستاتيكية الجامدة، أم أن العلاقة متحركة وبالتالي متغيرة؟

ما دفعني لاختيار العنوان السابق، ما تفرزه المسألة السورية اليوم على وجه الخصوص والتي يراها البعض صراعا علنيا تؤطره احتمالات شتى، يسعى إما إلى تغيير النظام في سوريا والسير بها ومعها إلى نظام إقليمي مختلف كل الاختلاف عما ساد ثم تفاقم في سنوات الربع قرن الماضي على الأقل، وهو ما تسعى إليه دول الخليج وتتعامل على أساسه على قاعدة احترام الخيار الشعبي السوري، أو الاحتمال الآخر أن يبقى النظام مستثارا لفترة طويلة مؤكدا أكثر تحالفاته الإقليمية التي قد تعود من جديد إلى إثارة المشكلات لدول الخليج بادئا بأضعفها. ليس خافيا اليوم أنه كلما ضغطت دول الخليج إقليميا (عن طريق جامعة الدول العربية) وعالميا عن طريق الأمم المتحدة، على الوضع السوري واستعجلت رحيل نظامه وإبداله آخر به، ضغط حلفاء سوريا على الجرح الخليجي في البحرين بالذات وفي الخليج عموما، وربما أيضا السعي حثيثا للبننة الخليج إن أمكن أو جزء منه على الأقل كرد على النشاط السياسي والإعلامي الدولي لدول الخليج. من قراءة مفردات الخطابات المتكررة لبشار الجعفري مندوب سوريا في الأمم المتحدة من أعلى منبر دولي، الذي طالب قبل فترة «بحماية دولية لأبناء القطيف وسحب القوات السعودية المعتدية من البحرين»، مثال واحد فقط، معطوفا على ترسانة من الإعلام الصديق للنظام السوري، يدل على عمق الصراع وتشعبه بين النظام السوري وحلفائه، وبين دول الخليج، وأنه وصل إلى حد لا رجعة فيه.

قواعد الاشتباك الخليجي، العربي، قد تغيرت منذ بدأ الربيع العربي، فليس خافيا الموقف النشط الذي وقفته دول الخليج تجاه المساعدة في الإطاحة بالعقيد الليبي التي بدأت أولا بقرار حاسم من جامعة الدول العربية لحماية المدنيين، وانتهت بموقف أممي قادت رأس الحربة فيه دول حلف الشمال الأطلسي حتى الإطاحة بالنظام، ولكن العقيد كان بلا أصحاب أو أصدقاء، كان محاطا فقط إما بدول خائفة من شطحاته، أو دول قلقة من جهازه السري المتمتع برصيد يبلغ بضعة بلايين من الدولارات. لم تكن دول الخليج بعيدة أيضا من ربيع العرب اليمني، فقد قامت بدور نشط هناك حتى سمي الاتفاق النهائي بـ«مبادرة مجلس التعاون»، كما أنها لم تكن - بشكل ما - بعيدة عما حدث في مصر، وإن كان الدور هنا إعلاميا أكثر منه دبلوماسيا أو سياسيا، في المكانين لا تخلو أيضا من ردات فعل سلبية تجاه دول الخليج، فالخاسرون يضعون أسباب خسرانهم على (التدخل الخليجي)!

كل ذلك يعني أن اللعبة وقواعدها تتغير بسرعة في العلاقات العربية بين الأصفر والأخضر مجازا، إلا أنها لا تتغير فقط بسبب الموقف (الإيجابي) لدول الخليج تجاه الأحداث في منطقة الربيع، بل تتغير بسبب الموقف السلبي أيضا الذي يأخذه نتاج الربيع.

فليس خافيا الآن أن القوى الجديدة المتلحفة بالإسلام السياسي ترغب في مضايقة الدول الخليجية بسبب ما تعتقد أنه تأخر أو عدم رغبة في المساعدة المالية واللوجستية لحكمها الجديد، على أساس أن الضغط الاقتصادي عليها سوف يثير قطاعات شعبية آجلا أو عاجلا ضدها، بالتالي فإن (تقاعس) دول الخليج عن المساعدة يجعلها تحاول نثر الغبار السياسي حولها، لعل المثال الأوضح هنا هو تصريحات محمود غزلان المتحدث الرسمي للإخوان المسلمين في مصر الذي أوحى بالقدرة على إشاعة الاضطراب في الخليج والتعطيل الداخلي من خلال محازبيهم في حال استمرار الموقف السلبي لدول الخليج، وسببه الظاهري مضايقات للمحازبين، أما سببه الحقيقي فهو تأخر التمويل الذي تحتاجه هذه القوى لتخفيف الضغط الداخلي عليها وعودها لم يصلب في السلطة بعد، إلا أن الوجه الآخر أيضا يسير باتجاه معاكس لتحقيق نفس الأهداف، فهناك قوى ليبرالية أو قريبة منها في ربيع العرب سواء في تونس أو مصر أو حتى في اليمن، والتي ترى أن الموقف الخليجي هو الذي جاء بالمتشددين إلى السلطة سريعا في تلك الدول، وأن هناك أجندة خفية وهي أن يجتاح فقه الصحراء المتشدد، فقه الأخضر المتسامح، ذلك بيّن الآن في الكتابات المختلفة التي تتناول موضوع نتائج الربيع في بلدانه. التيار الحداثي في دول الربيع يعلل تراجعه في مخرجات صناديق الانتخاب - حتى الساعة - كما يعلل إنجاب الربيع للقوى المتشددة، على أنه جاء على يد قابلة خليجية، وأن (فقه الصحراء النفطي) يقف على مصاب الأنهار العربية من أجل تهديدها بالجفاف المدني!

إذن تتجمع المعطيات من أكثر من زاوية لتفسير المبادرات الخليجية، إبان أحداث الربيع بمجملها، لتشكل شكلا من الابتزاز أو التخويف المضاد حيث تحضر لهجمة الأخذ بالثأر إن صح التعبير من قوى عربية تبدو لأول وهلة متناقضة الأهداف، إلا أن الإحباط عندها يدفعها إلى التصور أن الإخلال بمجتمعات الخليج هو هدف مركزي إما لتقليل الضغط عليها أو لإثبات البراءة من تبعيتها للصحراء، كل التوجهات تلك أكانت قائمة على بعض الحقائق أو على أوهام تجعل من الأهمية التنبيه إلى وجودها.

فكرة صراع النفط والماء أو الأصفر والأخضر فكرة قديمة تتجدد اليوم بشكل مختلف وإن كان بقوة أكبر، أكانت خافية أو ظاهرة، ومن اتجاه الأحداث يمكن رصد عدد من المحاولات وإن بدأت معزولة إلا أنها تنتظم للرد على المساهمة الخشنة أو الناعمة لدول الخليج في أحداث الربيع.

قبل أسبوعين من الآن عرف العالم أن طائرة الأمير سعود الفيصل تم تأخير إقلاعها من القاهرة، بسبب تهديد ما، وقد لا يكون صحيحا، إلا أنه بمجرد حدوثه يعني شيئا ما. أما الأكثر وضوحا فهو مقتل دبلوماسي سعودي أو محاولة أيضا لقتل دبلوماسي قطري، كلا الاثنين في أماكن بعيدة غير متوقع الخلل الأمني حولها، وهي مؤشرات فقط لما يمكن أن يحدث، ذلك معطوف على احتمال تحريك الأنصار في داخل المجتمعات الخليجية إما بشكل نشط أو بشكل إعلامي واسع. لم تعد تلك الأمور من السرية أو المهادنة الظاهرية، فقد قامت بعض الشخصيات المسوؤلة في بعض دول الربيع أو دول تشهد مخاضة، قامت بالحديث العلني الذي يشكل تهديدات واضحة لدول الخليج، كما رددت بشكل واسع على شبكات الاتصال الاجتماعي التي هي اليوم تخرج المستور والمسكوت عنه في السابق على ألسنة بل قُل أقلام الناس العاديين.

آخر الكلام:

بعد التفجيرات الضخمة التي طالت عددا من المدن والبلدات العراقية يبدو أن الاجتماع ليوم واحد للقمة العربية المقبلة في بغداد باهظ التكاليف الإنسانية، ألا يرى أهل الحكم في بغداد أنها ستكون أكثر رحابة صدر لو صاروا إلى وفاق سياسي واسع بين أبناء العراق أنفسهم بدلا من هذا التهميش والعزل الذي يؤخر استتباب الأمن العراقي. ألا يتعلم أحد من سابقه بأن الاستحواذ على السلطة وتهميش الشريك هو مقتل سياسي!!