نوعان من الشقاء

TT

بأفول نجم الصناعات البريطانية، تحول الكثير من منشآتها الصناعية إلى معالم سياحية يدخلها الناس ليتفرجوا ويعاينوا كيف عانت الشغيلة البريطانية في خلق هذه الثروة، ثم يحمدون ربهم على ما هم عليه الآن من حياة على مخصصات البطالة.. هكذا أصبحت مناجم الفحم وأحجار الإردواز في منطقة ويلز قبلة للسياح. غامرت ونزلت في أحد هذه المناجم بعد أن تعممت بالخوذة الحديدية الواقية، وغصت مئات الأمتار تحت الأرض لأستمع لأحد عمالها القدامى يشرح لنا العمل في هذه الدهاليز والكهوف المعتمة كما جرى في القرن التاسع عشر. يظهر أن العامل يفقد رؤية الشمس كليا في حياته حالما ينخرط في العمل فيها في سن الرابعة عشرة، ويموت في الثلاثينات من عمره دون أن يرى الشمس ثانية. فعليه أن يدخل المنجم قبل طلوع الشمس ولا يخرج قبل غروبها.. يقضي نهاره يستضيء بشمعة صغيرة يستهدي بنورها في قطع الأحجار والصخور وتكسيرها وتحميلها؛ في عمل مرهق حقا. يوم الأحد هو اليوم الوحيد للراحة، ولكن عليه أن يقضيه في الكنيسة يستغفر ربه من ذنوبه ويدعو لصاحب المنجم بطول العمر. وصاحب المنجم لا يدفع له أي أجرة نقدا؛ وإنما يعطيه فقط قسائم لشراء ما يحتاجه من أكل وملبس وشموع وأدوات للعمل من دكان المنجم وبالأسعار التي يحددها صاحب العمل.. وهذا إذا لم يمرض العامل ويتسمم بغبار الفحم القتال. وصاحب المنجم لا يدفع للعامل أجرته نقدا خوفا من أن ينفقها على الشرب والسكر فيتغيب عن العمل في اليوم التالي أو تقل إنتاجيته. والحريص منهم قد يوفر من الفلوس ما يمكنه من الانتقال للمدينة والبحث عن عمل آخر، فعمال المناجم كانوا في الواقع نوعا من الرقيق.

تأملت في هذه الحياة ثم قارنتها بحياة البدو والعربان عندنا.. يقضون حياتهم أحرارا في الهواء الطلق والشمس الساطعة.. يتمددون وينامون في ظل نخلة أو خيمة صيفا أو يتدفأون بأشعة الشمس شتاء، ولا يقومون بأي شيء.. لا يأكلون غير القليل من عطايا الأرض. تساءلت: أي النوعين من الحياة أفضل وأسعد وأكرم؟ الفقر واحد، ولكنني من دون شك سأفضل حياة البدوي. بيد أن حياة عمال المناجم المريرة والقاسية علمتهم العمل والسعي وبذل الجهد.. استفاقوا أخيرا من تعاستهم فثاروا وتظاهروا وأضربوا عن العمل وتكاتفوا وناضلوا حتى انتزعوا حقوقهم في عيش أكرم وأسخى وأجور وضمانات اجتماعية تليق بعملهم.

وعلى الجانب الآخر، ظل الأعرابي راضيا بكسله وعطله، مستلقيا بين أهله وأصحابه القلائل في ظل نخلة يستمتع بالكلام ونظم الشعر ويطنطن بشيء من الحداء والغناء.. لم يخطر له أن يغضب من أوضاعه وأحواله؛ فأولا وآخرا ضد من يثور؟ وممن يطلب حقوقه في حياة أسخى وطعام أزكى؟ وهذا في رأيي سر من أسرار الكسل الفكري السياسي في تراثنا العربي. فكرة خطرت لي في منجم من مناجم الفحم في ويلز.. مئات الأمتار تحت الأرض، ضمن سياحة صناعية.