إسرائيل مرتاحة

TT

تعيش المنطقة العربية حالة من الجمود على صعيد الصراع العربي - الإسرائيلي، وهذا صراع يفترض أنه قائم ومستمر ما دامت فلسطين مغتصبة، وما دامت الأراضي العربية الأخرى محتلة في الضفة الغربية والجولان. وقد كان هذا الجمود قائما منذ زمن على صعيد مناطق المواجهة العربية (لبنان وسوريا والأردن)، أي على صعيد الدول العربية المحيطة بإسرائيل، ولكنه كان حارا ومتحركا على الصعيد الفلسطيني - الإسرائيلي، إلى أن تم مؤخرا إيقاف هذا التحرك على الصعيد الفلسطيني، انطلاقا من نظرية «المفاوضات» التي يميل إليها قادة فلسطينيون بارزون، هم الآن في سدة السلطة الفلسطينية.

ولا يعني هذا التوصيف دعوة للتحرك العسكري ضد الاحتلال الإسرائيلي، رغم أن ذلك حق مشروع، ولكنه يعني أن إسرائيل لا تنزع للتفاوض حين لا يكون هناك ضغط مقاوم في مواجهتها. والضغط المقاوم يمكن أن يكون عسكريا، ويمكن أن يكون سلميا، ولكننا نفتقد حاليا إلى كلا النوعين من المقاومة، السلمية أو العسكرية.

القيادة الفلسطينية الحالية لا تميل إلى المقاومة العسكرية المسلحة، وتحبذ المقاومة الشعبية السلمية علنا ورسميا، ولكنها لا تفعل ذلك إلا تعبيرا عن موقف سياسي، أو عن موقف تبشيري، ومن دون أن تعد نفسها، أو أن تعد شعبها لأي نوع من أنواع المقاومة، وهي تأمل بديلا عن ذلك بالمفاوضات.

العدو الإسرائيلي المحتل يتصرف بطريقة أخرى، فهو محتل من جهة، ولا يتبرع بالذهاب إلى المفاوضات من جهة أخرى. إنه محتل ولا يفكر بالمفاوضات إلا مجبرا. وفي ظل غياب الإجبار يواصل احتلاله، ويواصل البعد عن المفاوضات.

القيادة الفلسطينية القائمة الآن، تميل إلى المفاوضات، وتعتقد أن المحتل الإسرائيلي سيتجاوب مع هذه الدعوة تلقائيا، وحين لا يتجاوب، لا تفكر بأي فعل مضاد لإجباره على هذا التفكير.

وتاريخيا، فإن شرط التفاوض مع المحتل، أن تقوم مقاومة مسلحة تجبره على القبول بالتفاوض، أما في ظل غياب هذه المقاومة المسلحة، فمن المستحيل أن يفكر المحتل بالتفاوض، لأنه يكون آنذاك في وضع مريح له، بل هو أفضل وضع مريح له.

يعني هذا مباشرة أن القيادة الفلسطينية الحالية، وهي قيادة مؤمنة بالتفاوض، لا يمكن أن تصل إلى موقفها هذا، إذا لم تستند إلى مقاومة فاعلة ضد الاحتلال، ولكن هذه القيادة الفلسطينية التي تستثني المقاومة الفلسطينية من قاموسها، لا تنظم أي مقاومة شعبية سلمية للاحتلال، إنها تطرح الفكرة على طريقة المبشرين، ولا تقوم بأي جهد شعبي لتوفير ظروف هذه المقاومة الشعبية السلمية غير المسلحة، وتكون النتيجة أن العدو الإسرائيلي يعيش حالة ارتياح، فلا مقاومة تواجهه، ولا مفاوضات تضغط عليه.

أن تكون سلميا، وأن تكون مؤمنا بالتفاوض، لا يعني أنك لا تقاوم المحتل، وإلا فإنه سيواصل احتلاله، فمقاومة الاحتلال هي جزء من خطة التفاوض السلمي فيما بعد، إلا إذا كان الاحتلال ملائكيا، وهو بالطبع ليس ملائكيا على الإطلاق، بل إنه احتلال استيطاني، أي لا أفق لنهاية احتلاله، حتى على صعيد تغيير الاستراتيجيات.

إن هذا الوضع يطرح على القيادة الفلسطينية مسؤوليات جمة، وأولى مسؤولياتها، أن تلقي عن كاهلها حالة الاسترخاء النابعة من فكرة المفاوضات، وأن تضع هدفا لها ينطلق من تنظيم مقاومة مسلحة للاحتلال الإسرائيلي، من أجل الوصول إلى هذه المفاوضات.

وبديهي أننا لا نقول هذا الكلام من دون إدراك لتبعات ومصاعب الكفاح المسلح ضد الاحتلال، ولكن هذه المقاومة تحتاج إلى تنظيم، وتحتاج إلى إسناد، وتحتاج أولا وبالأساس إلى قرار سياسي، وكل هذه الأمور غير قائمة الآن، ويرتاح إليها المحتل الإسرائيلي.

وقد برزت مؤخرا، وعلى لسان كبار القادة الفلسطينيين، فكرة الكفاح الشعبي السلمي، وهي فكرة مطروحة تاريخيا، ونفذت بنجاح في بلد كبير كالهند، كان محتلا من قبل الدولة العظمى بريطانيا، ومورس إلى أن خرج الاحتلال واستقلت الهند، وتبين في مسار ذلك أن الكفاح الشعبي السلمي ليس بالأمر الهين، فهو يحتاج إلى قيادة فاعلة ترفع الشعار، وتحدد الهدف، ثم تعمل على توفير متطلبات النجاح، فالكفاح السلمي لا يكون بالتبشير، ولا يكون بمخاطبة الشعب ودعوته إلى الكفاح السلمي من دون التواصل معه، ودعمه لكي يستطيع القيام بهذا النوع من النضال.

مثلا.. قد يعني النضال السلمي الإضراب، وقد يعني الإضراب المفتوح، فكيف سيقاوم الشعب في ظل إضراب مفتوح؟ وكيف سيعيش الشعب في ظل إضراب مفتوح؟ هذه هي أبسط الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا السياق، وتحتاج إلى إجابات عملية ميدانية، هي من مسؤوليات القيادة التي تفكر بهذا الاتجاه، بينما نشاهد على أرض الواقع، أن القيادات تطرح هذه المسألة وكأنها تريح نفسها من مسؤوليات المواجهة المسلحة مع الاحتلال فقط، ومن دون أن تفكر في تبعات ما يلي ذلك.

إن تحديد الهدف السياسي والنهائي لأي شكل من أشكال النضال، هو الذي يشكل الحافز للجماهير بأن تتبنى ذلك النهج، أما إذا اقتصر الأمر على الدعوة والتبشير، ومن دون توضيح للأهداف النهائية، فإن المشاركة الجماهيرية لا تكون مؤهلة، ولا قادرة، على ممارسة هذا النوع من النضال. وتوضيح الأهداف، وتوضيح الوسائل، وتوفير الإمكانيات المعيشية، هي مسؤولية القيادة أولا، وهي مسؤولية ضخمة، أضخم حتى من نهج المقاومة المسلحة للاحتلال.

ونعود ونقول: إن الشعب الفلسطيني له تجربة مديدة في مواجهة الاحتلال البريطاني قبل الاحتلال الصهيوني، وهو مارس الكفاح المسلح ضد الاحتلال ومارس أيضا الكفاح الشعبي السلمي، ولكن في ظل قيادة مجمع عليها هي قيادة ثورة وإضراب 1936، الإضراب الشامل الذي هز في حينه الحركة الصهيونية، كما هز دولة الانتداب البريطاني على فلسطين.

إن كل شكل من أشكال النضال له تبعاته، ولا يعني الكفاح الشعبي السلمي إعفاء القيادة من تبعاتها، وهي إذا أرادت ذلك، فعليها أن تتقدم الصفوف، وأن توفر إمكانيات الكفاح الشعبي السلمي، وآنئذ ستعطيها الجماهير طاقات نضالية كبيرة، أما المناشدة التي من بعيد، فليس لها سوى معنى واحد: ترك الكفاح المسلح، وعدم توفير ظروف الأشكال الأخرى من النضال.. والفشل في النهاية.