«غولدمان ساكس».. تاريخ طويل في خداع العملاء

TT

ربما كان الوضع في مصرف «غولدمان ساكس» أسوأ بكثير مما يتخيله غريغ سميث، الذي أصبح الآن أكثر مسؤولي تداول المشتقات المالية السابقين في المصرف شهرة في جميع أنحاء العالم، بعدما خرج الأسبوع الماضي ليهاجم المصرف بشدة على صفحات صحيفة «نيويورك تايمز» - بصورة أذهلت الجميع - حيث ادعى أن قيم وأخلاق زملائه في المصرف، خلال فترة عمله التي امتدت لـ12 عاما، قد تدهورت بصورة كبيرة لم يستطع تحملها أو قبولها.

وكتب سميث يقول «يمكنني القول بكل أمانة إن بيئة العمل قد أصبحت فاسدة وهدامة بصورة لم أرها من قبل. ولكي أعبر عن المشكلة بأبسط صورة أقول إن مصالح العملاء كانت دائما مهمشة في طريقة عمل وتفكير المؤسسة في جني الأموال».

والسؤال الآن هو: ما الذي يتعين علينا استنتاجه من تصريحات غريغ؟ هل نستنج أنه لم يقم بواجبه تجاه المؤسسة التي عمل بها لأكثر من عقد من الزمان على الرغم من المكافآت التي يحصل عليها من آن لآخر؟ في الواقع، مر مصرف «غولدمان ساكس» ببعض المشاكل في بعض الفترات، وتنعم بالاستقرار في فترات أخرى، على مدار تاريخه الطويل الذي يمتد لـ143 عاما. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى أنه قد اختار أن يغلب مصلحته الخاصة على مصالح عملائه. وما بدا وكأنه سر أفشاه سميث كان في الحقيقة متاحا لأي شخص يريد أن يعرف ذلك من لجنة الأوراق المالية والبورصات وسجلات الاجتماعات. وكان يمكن لسميث أن ينقذ نفسه من الحزن الذي يشعر به الآن لو كان قد استغل تعليمه في جامعة «ستانفورد» لمعرفة الوضع الذي يمر به المصرف قبل أن يلتحق به من الأساس.

وثمة أمثلة كثيرة على قيام المصرف بتغليب مصلحته الشخصية على مصالح العملاء، ولعل أشهرها هو إفلاس شركة «بين سنترال ترانسبورتيشن»، التي كانت أكبر شركة للسكك الحديدية في البلاد، في شهر يوليو (تموز) عام 1970. وكانت الشركة قد قامت آنذاك بإنشاء 20530 ميلا من السكك الحديدية في 16 ولاية أميركية ومقاطعتين من المقاطعات الكندية، علاوة على إسهامها بنسبة 35 في المائة في حركة نقل ركاب السكك الحديدية في الولايات المتحدة. وكانت الشركة تمتلك بعض المنشآت العقارية الكبرى، بما في ذلك محطة «غراند سنترال» في نيويورك، علاوة على معظم الأراضي في شارع «بارك أفينو» والواقعة بين المحطة وبين فندق «والدورف أستوريا». ومع ذلك، تعثرت الشركة في دفع 87 مليون دولار من الديون قصيرة الأجل - والتي تعرف في هذه الصناعة باسم «الأوراق التجارية» - وكان مصرف «غولدمان ساكس» يمر بصعوبات مالية بالغة في تلك الفترة. وفي عام 1968، وبعد أعوام من إغلاق شركة «بين سنترال» وتوقفها عن العمل جنبا إلى جنب مع العديد من شركات السكك الحديدية في البلاد، قام مصرف «غولدمان ساكس» بشراء الأوراق التجارية للشركة، والتي كان يتم النظر إليها على أنها من أكثر الاستثمارات قصيرة الأجل أمانا. وبعد ذلك، قام «غولدمان ساكس» ببيع تلك الأوراق، مقابل رسوم كبيرة، لعملائه، بما في ذلك بعض الشركات الكبرى مثل شركة «أميركان إكسبريس» وشركة «ديزني»، وشركات أصغر مثل شركة «ويلشز فوودز» التي تشتهر بصناعة عصير العنب، وشركة «يونكرز» وهي شركة تجزئة تتخذ من مدينة ديس موينس مقرا لها. وقامت شركتا «ويلشز» و«يونكرز»، على وجه خاص، بشراء تلك الأوراق استنادا إلى حقيقة أن مصرف «غولدمان ساكس» قد أكد لهما أن الأوراق التجارية لشركة «بين سنترال» آمنة للغاية ويمكن استبدالها بسهولة. وعلى هذا الأساس، قامت «ويلشز» باستثمار مليون دولار - جزء منه نقدا - في حين استثمرت «يونكرز» 500.000 دولار، بناء على توصية من «غولدمان ساكس».

وبعدما أعلنت شركة «بين سنترال» إفلاسها، اكتشف فريق التحقيقات التابع للجنة الأوراق المالية والبورصات أن «غولدمان ساكس» قد استمر في بيع ديون السكك الحديدية إلى عملائه بالمقابل نفسه، على الرغم من أن المصرف كان على علم بنهاية عام 1969 بأن الموارد المالية لشركة «بين سنترال» كانت تتدهور بسرعة كبيرة للغاية. ولم يكن «غولدمان ساكس» مطلعا على الأرقام الداخلية لشركة «بين سنترال» فحسب، لكنه كان يسمع باستمرار من المديرين التنفيذيين لشركات السكك الحديدية بأن الأموال النقدية قد بدأت تنفد في تلك الشركات بسرعة كبيرة للغاية.

ووفقا لما أعلنته لجنة الأوراق المالية والبورصات، حصل المصرف على «معلومات، بعضها من مصادر عامة وأخرى من مصادر خاصة، تفيد بوجود حالة من التدهور المستمر في الوضع المالي لشركات السكك الحديدية. وعلى الرغم من ذلك، لم يقم (غولدمان ساكس) بنقل تلك المعلومات إلى عملائه الذي يقومون بشراء الأوراق التجارية، كما لم يقم بإجراء فحص دقيق لوضع الشركة. ولو قام (غولدمان ساكس) بنقل تلك التحذيرات لعملائه وقام بإعادة تقييم وضع الشركة، لعلم أن وضع الشركة كان أسوأ بكثير مما كان يقال آنذاك».

وقالت لجنة الأوراق المالية والبورصات إنه على الرغم من أن «غولدمان ساكس» لم يقم بنقل تلك الأخبار السيئة إلى عملائه واستمر في بيع الأوراق التجارية لشركة «بين سنترال» التي تتدهور بصورة سريعة، فإن المصرف لم يستغل المعلومات التي حصل عليها من مصادر عامة وخاصة في حماية نفسه وشركائه من شراء تلك الأوراق التجارية. وقبل كل شيء، كان «غولدمان ساكس» في ذلك الوقت في شراكة خاصة مع رأس مال شركائه فقط، وليس مع مستثمرين من الخارج كما هو الحال اليوم.

وبحلول شهر فبراير (شباط) عام 1970، كانت ميزانية «غولدمان ساكس» تحتوي على 10 ملايين دولار هي قيمة الأوراق التجارية لشركة «بين سنترال»، أي نحو 20 في المائة من إجمالي رأس مال المصرف والذي بلغ 50 مليون دولار. ومما لا شك فيه أن خسارة 20 في المائة من إجمالي رأس مال المصرف تعد شيئا خطيرا للغاية، وقد تعوق قدرته على الاستمرار في العمل، لأن ما حدث في عام 2008 يجعلنا ندرك جيدا أنه بمجرد أن يشكك العملاء في قدرة أي مؤسسة للأوراق المالية على الوفاء بالتزاماتها فإن ذلك قد يؤدي إلى سقوط تلك المؤسسة بين عشية وضحاها.

وكان قرار شركاء «غولدمان ساكس» واضحا، وهو أنهم لن يستطيعوا الدخول في تلك المخاطرة. وفي الخامس من شهر فبراير 1970، وهو اليوم الذي تلقى فيه المصرف آخر بيانات سيئة للغاية عن شركة «بين سنترال»، طلب المصرف من السكك الحديدية شراء مخزون الأوراق التجارية الذي تبلغ قيمته 10 ملايين دولار بالمقابل نفسه، على الرغم من أن قيمة تلك الأوراق كانت قد انخفضت كثيرا في ذلك الوقت. ولم يقدم أي من شركاء «غولدمان ساكس» مثل هذا العرض، كما لم يخبرهم المصرف بأنه قد عمل على حماية نفسه أولا وتركهم يعانون من التقلبات الكبيرة في قيمة الأوراق التجارية لشركة «بين سنترال» وانخفاض قيمتها بصورة كبيرة، وهو ما جعل شركات مثل «أميركان إكسبريس» و«ديزني» و«ويلشز» و«يونكرز» عبارة عن «دمى متحركة» في يد «غولدمان ساكس»، على حد تعبير سميث نفسه.

وقال التقرير الصادر عن لجنة الأوراق المالية والبورصات «كان معظم العملاء يعتقدون أن (غولدمان ساكس) كان يحتفظ بمخزون من الأوراق المالية والتي عرضها للبيع. وكان معظم العملاء الذي قاموا بشراء الأوراق التجارية للشركة بعد يوم الخامس من فبراير 1970 قد قاموا بذلك استنادا إلى حقيقة أن (غولدمان ساكس) يحتفظ بمخزون كبير من الأوراق التجارية للشركة، وهو ما يعني أن المصرف يشعر بأن تلك الأوراق التجارية جديرة بالائتمان».

وقامت لجنة الأوراق المالية والبورصات بمقاضاة «غولدمان ساكس» مدنيا نتيجة لسلوكه في بيع الأوراق التجارية لشركة «بين سنترال». وقد تمت تسوية الدعوة القضائية سريعا، ولم يقم المصرف بنفي تلك الاتهامات أو الاعتراف بأنه مذنب. وعقب إشهار شركة «بين سنترال» إفلاسها، واجه «غولدمان ساكس» تهديدا كبيرا يهدد بقاءه، حيث قام العملاء واحدا تلو الآخر برفع دعاوى قضائية على المصرف لأنه قد باع لهم أوراقا تجارية تحوم الشكوك حول قيمتها ومستقبلها. وقال جورج دوتي، وهو أحد الشركاء السابقين في «غولدمان ساكس»: «عانينا جميعا من صعوبات كبيرة خلال السنوات الماضية».

وكان باستطاعة المصرف أن يقوم بتسوية تلك الدعاوى القضائية مقابل دفع أجر ضئيل لا يتجاوز بضعة سنتات على كل دولار من قيمة الأوراق التجارية. ومع ذلك، تم نظر العديد من تلك الدعاوى أمام المحكمة، بما في ذلك دعوى قضائية مشتركة من شركات «ويلشز» و«يونكرز» و«سي آر أنتوني»، وهي شركة أخرى لتجارة التجزئة في منطقة الغرب الأوسط. واتهمت هذه الشركات «غولدمان ساكس» بـ«الاحتيال والخداع وإخفاء معلومات مهمة عن العملاء والادعاء الكاذب» في بيع الأوراق التجارية إليهم. وأكدت تلك الشركات أن المصرف قد «قطع على نفسه عهودا وتأكيدات بشأن المستقبل كانت تفوق كل التوقعات المعقولة وغير المبررة في الظروف الحالية»، وأضافت تلك الشركات أن المصرف قد «قدم تأكيدات وبيانات كاذبة».

وكان الشيء الغريب هو أن «غولدمان ساكس» كان يعتقد أنه يمكن الفوز في تلك الدعاوى القضائية، ووافق على تحويل تلك الدعاوى للمحكمة، وهو ما أدى إلى كشف النقاب عن التجاوزات التي ارتكبها المصرف. وفي النهاية، خسر المصرف الدعوى القضائية التي رفعتها الشركات الثلاث، وقام المصرف برد قيمة تلك الأوراق التجارية، علاوة على الفوائد.

* ويليام كوهان مؤلف كتاب «المال والسلطة: كيف أتى (غولدمان ساكس) ليحكم العالم؟»

* خدمة «واشنطن بوست»