هل هي هويات قاتلة؟!

TT

هل يصدق توقع الروائي اللبناني - الفرنسي الشهير، أمين معلوف، في أننا مقبلون لعقود من الزمن على عصر من حروب «الهويات القاتلة»؟!

«الهويات القاتلة» هو عنوان كتاب معروف لمعلوف، وهو كاتب ومبدع مشغول تماما بتشابكات المشرق الدينية والتاريخية والاجتماعية.

حياته نفسها تجسد جانبا من هذه التشابكات، ففي حوار نشر معه مؤخرا في دبي، على هامش الاحتفال الفضي لمؤسسة العويس الثقافية، نشر في موقع «ميدل إيست أون لاين»، أشار إلى المناخ المتعدد والمركب الذي عاش فيه، حيث ولد في بيروت، ووالدته في مدينة طنطا المصرية، وجدته (أم والدته) ولدت في أضنا بتركيا، ونشأته كانت في بيروت وقليلا في مصر كذلك، لأن عائلة والدته انتقلت من طنطا إلى القاهرة لتعيش في منطقة هليوبوليس، وحتى سن ثلاث سنوات كان معظم الوقت يعيشه في هليوبوليس، ثم انتقل إلى لبنان ليعيش بها حتى سن 1976، درس في لبنان، وعمل عقب تخرجه في حقل الصحافة، كتب في صحيفة «النهار»، وواصل العمل في حقل الصحافة بعد خروجه من لبنان إلى فرنسا عام 1975 مع بدء الحرب اللبنانية، حيث عمل في مجلة «إيكونوميا الاقتصادية»، وترأس تحرير مجلة «أفريقيا الفتاة» أو «جين أفريك».

انتمى لليسار في شبابه الجامعي، بينما والده رشدي معلوف كان أميل لليمين، أسرته «المعالفة» من أكثر الأسر المهتمة بالثقافة والتنوع واللغات في لبنان.

كتب «ليون الأفريقي»، و«سلالم الشرق»، و«الحروب الصليبية»، وغيرها من الكتب البحثية والروائية التي تتمحور حول تجليات الهوية.

عضو في الأكاديمية الفرنسية، أعلى صرح فرانكفوني.

ما زلت أتذكر تفاصيل روايته السحرية اللذيذة «سلالم الشرق» أو «موانئ الشرق».

الرجل تحدث في هذا الحوار عن رؤيته عن الربيع العربي ومستقبل الصراعات المقبلة في المنطقة، وهو رجل شديد الميل في كتاباته للجانب الإنساني المشترك، كما يلحظ المتتبع لنصوصه.

قال في جواب على سؤال حول مراده من كتابه: «ما حدث في لبنان نموذج عن رسالة كتاب (الهويات القاتلة)، فـ(الهويات القاتلة) هي حين يتحول انتماء الإنسان إلى سلاح يشهره في وجه الآخرين، وكما قلت لك عشت في مرحلة كانت هناك للناس هويات مختلفة، لكن تلك الهويات لم تكن تمنعهم من أن يعيشوا ويتعايشوا في الأحياء نفسها، والمدينة نفسها، والجامعة نفسها، أن يكونوا أصدقاء، وأن يتناقشوا بصدق ومحبة، وطبعا الهويات ليست دائما هكذا، هناك هويات تقتل، شاهدنا ذلك في حرب لبنان، وفي يوغوسلافيا السابقة، ورواندا، وأماكن أخرى كثيرة من العالم، وأعتقد أننا نعيش في عصر الهويات القاتلة، عصر تتحول فيه الانتماءات إلى أسلحة يشهرها الإنسان في وجه الآخرين، ومن سوء الحظ أن ذلك قد يكون الطابع المهيمن على العقود المقبلة».

أكثر عبارة مخيفة في إجابة معلوف الأخيرة هذه هي قوله عن هذه الهويات القاتلة إننا سنعيش معها عقودا، حتى مع ازدهار الربيع العربي، بل ربما بسبب منه!

حتى لا نظلم الربيع العربي، الحق أن انفجار سؤال الهويات سابق على 2011، بل كان أكثر حدة ومخاتلة، على الأقل كان يفسر من قبل البعض، قبل الربيع العربي، بأن سبب حدته وصلفه هو غياب المشاركة السياسية وتداول السلطة، الآن بماذا يفسر، خصوصا إن ظل معنا لعقود وعقود كما يقول «خبير الهويات» أمين معلوف؟

للتذكير، ففي 2010 مررنا بعدة محطات «قاتلة» حول الهوية.

نتذكر أزمة تصريحات الأنبا بيشوي حول القرآن، وهي التصريحات التي عاد رجل الدين المسيحي هذا فنفى ما فهم أنه إساءة للإسلام والمسلمين، خصوصا بعد أن خرج رأس الكنيسة القبطية وبطريرك الكرازة المرقسية، الأنبا الراحل شنودة، بنفسه على التلفزيون المصري متحدثا بألطف خطاب للمسلمين المصريين والمسلمين عامة، وعبر عن «الأسف» لجرح مشاعر المسلمين بسبب تصريحات الأنبا بيشوي. وقال في مقابلة مع التلفزيون المصري الحكومي: «أنا آسف جدا أن يحصل جرح لشعور إخواننا المسلمين». وأعرب عن استعداده «لترضيتهم بأي طريقة». وأضاف أن «الحوار الديني يجب أن يكون في النقاط المشتركة في المساحة المشتركة». وأكد البابا شنودة أيضا أن «مناقشة المعتقدات الدينية خط أحمر يجب عدم تجاوزه».

في المقابل كانت تصريحات شيخ الأزهر أحمد الطيب التي رفض فيها التعليقات المنسوبة للأنبا بيشوي، على حزمها وصرامتها من رمز المؤسسة الدينية الإسلامية الأول في مصر، تحمل قدرا من الإحساس بالمسؤولية والبعد عن التأجيج.

قبلها كانت تصريحات القس الأميركي تيري جونز التي أثارت أزمة دولية.

وفي نفس المرحلة اشتعل الإعلام الخليجي بتصريحات شاب شيعي معمم هاجم فيها العقائد السنية، الأمر الذي أدى إلى إصدار الدولة في الكويت أمرا بحظر التجمعات «الخطابية» المضادة، بالتوازي مع سحب الجنسية الكويتية من هذا المعمم الشيعي المتوتر ياسر الحبيب.

وقبل ذلك ثارت فتنة بسبب ما نسبته إحدى القنوات الفضائية الحريصة على برامج العراك السني - الشيعي «تحت اسم الحوار» إلى مرجع الشيعة الأشهر، السيد علي السيستاني، من تكفير لأهل السنة، الأمر الذي جعل مكتب المرجع الشهير يصدر بيانا صريحا ينفي فيه هذا الكلام، ويؤكد على أن أهل السنة من جماعة الإسلام.

وقبل ذلك كانت تصريحات خطيب وواعظ سعودي «نجم» هاجم فيها السيستاني دينيا، وهو ما أحدث غليانا سياسيا في العراق وغيره، خصوصا أن هذا الهجوم تزامن مع موسم انتخابي طائفي بامتياز، وانتقد الواعظ السعودي من انتقده من عقلاء السنة، وناصره من ناصره من الخطباء والوعاظ. الأمر لم يقتصر على التراشق الطائفي داخل الإطار الإسلامي، بل كلنا نتذكر الأزمة الدينية الكبرى التي أحدثها البابا بنديكتوس السادس عشر في محاضرة بإحدى الجامعات الألمانية في سبتمبر (أيلول) 2006، حيث أورد اقتباسا من القرون الوسطى استفز المسلمين بسبب تهجمه على تاريخ المسلمين، الأمر الذي جعل البابا يسارع للتوضيح، والتراجع لاحقا، بأنه أورد الاقتباس لا على سبيل الاقتناع به.

البابا انتقد من قبل كبار الرموز الدينية والسياسية في العالم الإسلامي، حيث وجه له شيخ الأزهر، حينها، الشيخ طنطاوي انتقادات حادة. ونقلت وكالة رويترز أن شيخ الأزهر أوضح خلال لقاء مع ممثل الكنيسة الكاثوليكية في القاهرة أن البابا «سكت دهرا ونطق كفرا». ولم يتخلف مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي عن نقد بابا الفاتيكان على محاضرته تلك.

ظللنا طيلة السنوات الثلاث الأخيرة في جو محتقن بالشحن الديني.

هل صدق توقع آخر كان أطلقه رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، حينما قال في منتصف 2008 إن القرن المنصرم هو قرن السياسة، والقرن الحالي هو قرن الأديان؟ ومن أجل ذلك قرر بلير أن يخصص بقية حياته للدين وحوار الأديان، والسعي للاستفادة من طاقة الدين في بث السلام وتوجيه الحماس للتنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر. كما ذكر وقتها وهو يدشن مؤسسته الخيرية في نيويورك.

كان الصراع يغلف في القرن الماضي بغلاف السياسة والوطنية والصراع الطبقي. وقبيل وبعيد 11 سبتمبر غلف بصراع الهويات وفساطيط الإيمان والكفر، ثم هبت - بشكل مؤقت - هبة شعارات الحرية والحقوق، ليعود الطابع الديني وطابع الهويات أكثر إلحاحا بعد السفور الديني الصريح في مصر وتونس وليبيا، ولاحقا في اليمن، وقبل ذلك في العراق، شقيق سوريا ولبنان في التعقيد الطائفي.

هويات قاتلة أم باعثة على الحياة؟ سيظل معنا هذا السؤال حينا من الدهر، نرجو أن يبقى في العمر بقية لنشهد نهايته.

[email protected]