شيعة وسنة وقمة!

TT

أطلب من القارئ الكريم أن يصبر معي قليلا حتى نهاية المقال، وأعرف مسبقا أن الموضوع الذي بصدد الكتابة عنه ليس موضوعا سهلا في التناول، كما أنه معرض للكثير من التأويل والتفسير السلبي، خاصة إن صادف عقلا متعصبا؛ حيث يحلو للبعض، في هذه الأجواء العكرة والضبابية من تاريخ منطقتنا، الميل إلى السلبية، عن فهم مسبق وإصرار على تحريف الحقيقة، أو عن قصور في الفهم. إساءة التفسير، أو إن أردت اقتناص كلمة هنا أو تعبير هناك من أجل إحلال ما يفكر به المفسر محل النص الأصلي، متوقعة في فضائنا الثقافي اليوم المليء بالشكوك المتبادلة، لكن الذي أرجوه من القارئ الفطن أن يكون النص والغرض منه روحا وكلمات هو محط النظر.

سنتناول العلاقة السنية - الشيعية من منظور سياسي وليس عقائديا، والتوقيت مهم بمناسبة عقد القمة العربية في بغداد، التي، للتذكير فقط، هي قمة «عربية». فتجاور الحدثين (القمة والعربية) يستوجب الخوض في الموضوع المطروح بشيء من الصراحة، وبعيدا عن التوظيف السياسي السلبي.

ما حدث في العراق أن هناك طائفة شيعية عربية كبيرة، إذا استثنينا الأكراد، تشكل مجاميع عزلت عن المساهمة الحقيقية والمباشرة في الحكم العراقي لفترة طويلة من الزمن وبالتدريج، أسهمت عناصر عدة، على مر الزمن الحديث، في عزلها، لكن هذا لم يمنع أن تلتحق طائفة منهم بحزب البعث أو بالأحزاب الأخرى الأممية أو القومية قبل انقلاب يوليو (تموز) عام 1958 الذي أطاح بالملكية في العراق، وبعد الحكم اللاحق والتدريجي عن قاعدة المواطنة استمرأت عشيرة، ومن ثم أسرة، بالحكم المطلق.

ما تلا ذلك كان صراعا بين مكونات عدة: افتقدت الدولة العراقية الثورية القدرة تدريجيا على إدماج حقيقي وقانوني ومتساوٍ للمكونات العراقية المختلفة، وبدأ من هناك التشرذم، أولا الكردي، ثم السني، وأخيرا الشيعي.

تصاعدت، من هنا، المقاومة لهذه الأنظمة التي جاءت بعد الانقلاب لتتخذ شكلا في نهاية الأمر مشطرا، أي أقلية نسبية مفترض أنها تشكل رأس الهرم في الدولة العراقية الثورية – إن صح التعبير - هي سنية، وأغلبية تشعر بأنها مهمشة، وهي الشيعة ثم الأكراد. زاد هذا التهميش، خاصة الشيعي، بعد بدء وتطور الحرب العراقية - الإيرانية الشرسة على امتداد عقد كامل، فقد تم تعميم «الشك» في الشيعة العراقيين العرب إلى درجة أن بعضهم أُجبر على ترك وطنه إلى إيران أو إلى المنافي، وأخذ التوظيف السياسي مقرونا بالجهل والتحشيد الإعلامي مأخذه، حتى صرنا في السنوات السابقة لتحرير العراق من قبضة الديكتاتور، نسمع ونرى النخبة الشيعية العراقية تنادي بحقوقها المهضومة كونها شيعية وليس فقط عراقية، على عكس التثقيف القومي السابق. سنوات النضال ضد الديكتاتورية العراقية جعلت من الجماعات المناوئة لحكمها تتكتل تحت جماعات «طائفية»، دفعها إلى ذلك عاملان، الأول هو شدة الملاحقة من النظام وشراستها، فكان لا بد من أن تتكون الخلايا في جماعات لها ضابط اجتماعي قوي في ما بينها، حتى لا تُخترق من أعوان النظام الشرس وعيونه، ولا أفضل من الجماعة الطائفية؛ حيث التلاحم الاجتماعي الأقوى، كما أن التوظيف السياسي الإيراني رحب بجماعات كهذه تحت مظلة ظاهرية، وهي الاشتراك في المذهب، لكن في الحقيقة هي الاستخدام السياسي للمقاومة ضد عراق البعث عدو النظام الإيراني.

في خضم صراع منهك وطويل تكونت تلك التجمعات السياسية الطائفية التي أصبح بعضها في قمة السلطة العراقية اليوم، وكان هاجسها المثال الإيراني في الثورة والحكم الذي قابله النظام البعثي بالبطش حتى حان التحرير من خلال الاحتلال الأميركي فظهرت الأحزاب على السطح.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن الموقف الإيراني من تجمعات الشيعة (العرب) لم يكن في الأغلب نتيجة تعاطف معهم كمذهب، بل كان نتيجة استخدام ذرائعي لمحاربة العدو. والطرفان، أي الجماعات الشيعية العراقية (وبعض العرب الشيعة من خارج العراق) والنظام الإيراني، أصبحا يجتمعان تحت ما يمكن أن يوصف بـ«زواج المصلحة»، أولا للإطاحة بنظام ديكتاتوري، وثانيا من أجل الوصول إلى السلطة بعيدا عن مشاركة الآخر إن أمكن، خاصة أن الآخر (السني) معارض بشدة زواج المصلحة السابق، ويرى فيه اعتداء على الشخصية الوطنية العراقية، وقد التحق به في السنوات الأخيرة نخبة من الشيعة العراقيين الذين تبين لهم أن الطريق الطائفي يسير باتجاه معاكس للمصالح العراقية العليا.

زواج المصلحة هو سياسي بامتياز؛ حيث عدو عدوي صديقي لا أكثر ولا أقل، والأكثر تعبيرا عن زواج المصلحة شاهدان، الأول: أن هناك عشرة، نعم عشرة ملايين من العرب الشيعة في منطقة الأحواز التي ترزح تحت ظلم كبير مقبل من طهران، تلك الكتلة البشرية كلها محرومة من مدارس بلغتها «العربية» أو حتى مساواة مع مواطنيها أو شكل من الحكم الذاتي، وتاريخ الأحواز لا يحتاج إلى سرد هنا، لكن المهم معرفة الحقيقة، أن كونهم شيعة عربا لم ينجهم من الاضطهاد الإيراني بالغ القسوة، أضف إلى ذلك الشاهد الثاني، وهو أن اللاجئين العرب (عراقيين أو غيرهم) من الشيعة إلى إيران في أوقات مختلفة، لم يكن لهم ذلك الترحيب الذي توقعوه، فقد قاسى بعضهم من التهميش والاحتقار وحتى الملاحقة، كونهم عربا لم تشفع شيعيتهم لتجاوز العقدة القومية الإيرانية.

قطاعات من الشيعة العرب العراقيين يعرفون أن القضية ليست في «تلاؤم المذهب»، بل القضية في اختلاف اللسان والأصل، أن ما يحدث هو توظيف سياسي لا أكثر؛ حيث يرى بعض الشيعة أن بمقدورهم الاستفادة من التحالف السياسي مع إيران لاستخدام الضغط الإيراني لتحسين ظروفهم المحلية، إلا أنه سلاح ذو حدين؛ حيث إنه من الصعب معرفة من يستفيد من الآخر، وعادة ما يستفيد القوي – الذي يعطي - من الضعيف الذي يأخذ. في العقود الثلاثة الماضية وظَّف الإيرانيون بعض الشيعة العرب لصالح تحقيق مصالح إيرانية، كما أن التوظيف الإعلامي من قبل النظام الإيراني (ضد إسرائيل) يجد له آذانا مصغية حتى خارج الطائفة الشيعية العربية باتجاه النسيج العربي ككل.

لا يستطيع أحد، وهو في عقله، أن يدعو إلى قطيعة من النظام الإيراني تكون كاملة شاملة وعدائية، ذلك ليس من حسن السياسة، لكن لا يستطيع أحد أن يقبل الذوبان بشكل تبعي في الأهداف السياسية الإيرانية، وقد وصل التدخل الإيراني السياسي في العراق مبلغ الرقبة من الجسم العراقي، وكلما اعتقد مكون عراقي أن بقاءه في السلطة مبني على تأييد طرف خارجي إقليمي مثل إيران، قيد نفسه في شكل تبعي يصعب الفكاك منه، وبقدر ذلك القرب هو في الحقيقة يبتعد عن المكونات الأخرى التي تتوجه إلى ما يماثلها في القرب العربي، وبسقوط النظام السوري أو بضعفه الذي سوف يقلل التحالف الإقليمي مع إيران، سوف يدفع النظام في العراق إلى أحضان طهران ويزيد من الصراع العراقي الداخلي.

قصة قديمة، لكنها تتكرر من جديد؛ فقد نقل عن لقاء بين الرئيسين جمال عبد الناصر وعبد السلام عارف عندما سأل الأول الثاني: كم يبلغ عدد الشيعة في العراق؟ رد الرئيس عارف بأنهم 7% من المسلمين! وهو هروب إلى الأمام دون اعتراف بالآخر المواطن، وتتكرر القصة العكسية الآن عن طريق الترويج لحكم المحاصصة، كلتا النظريتين تبعد الوطن العراقي عن التحديث المرجو.

تروى هذه الواقعة (عبد الناصر - عبد السلام) كطرفة أو كحقيقة، لكنها تعبر عن محاولات في السياسة العربية والعراقية قديمة وجديدة لتجاوز الحقائق، والحقائق هنا هي أن العرب عرب – بصرف النظر عن المذهب الذي يتبعونه - وأن الإيرانيين إيرانيون، لدولتهم القومية سياسات مناسبة يرسمها قادتهم لصالحها، أكان شاها أم ملالي، الارتباط الاندماجي بين أي مكون عربي وإيراني هو مضر – وقد يفاجئ البعض – مضر إلى المكونين معا في داخل الوطن وفي داخل الإقليم، فاجتماع القمة في بغداد يجب أن يحسم أولا موضوع الحفاظ على دولة عراقية مدنية يشترك فيها كل المكون العراقي التعددي على وجه متساوٍ؛ فسياسة العراق الخارجية والإقليمية يجب أن تبدأ في العراق نفسه وبين مكوناته أولا وأخيرا، قبل القفز على شكل مظهري هو اجتماع القمة التي من المفروض أن تجمع العرب، والداخل العراقي مبعثر!

آخر الكلام:

الخلاف السني - الشيعي ممتد منذ 13 قرنا من الزمان، ولا يزال المسلمون يختصمون حوله - وقليلا ما يتحاورون - ثم يوظف الخلاف توظيفا سياسيا فيشق المجتمعات ويضعف الأوطان، وتضيع فرص التوافق بين الجماعات التعددية في المجتمع الواحد، يذكر العقلاء بالخلاف بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا، الذي أسال أنهارا من الدماء حوله، ثم لم يجد الفرقاء طريقا لبناء أوطان تعددية مدنية حديثة، إلا بالتوافق، هل من يسمع؟!