ماذا أعطت أوروبا مصر؟

TT

بنى الفرنسيون للمصريين قناة السويس، وحملوا إليهم الثروة الثانية، القطن، وجاء نابليون ومعه أول مطبعة في الشرق، والقوانين المدنية، والجريدة الرسمية، والخبراء الذين اكتشفوا أهم الآثار، وأنعش الإيطاليون واليونانيون في الإسكندرية تجارة القطن، وأنشأوا أول صحيفة في البلاد، وفتحت إحدى العائلات الإيطالية الثرية جامعة مجانية تدرس فيها جميع العلوم، وخصوصا تاريخ المدينة القديم.

ونقل البريطانيون منهاجهم التعليمي، وكيفية تنظيم الجيش والإدارة، وأنشأوا أوائل القرن الماضي أشهر كلية في المشرق وأعطوها اسم فيكتوريا، ملكتهم المفضلة، ومن هذه الكلية تخرج بعض أبرز العرب والمصريين، وفي الإسكندرية عاش كبير شعراء اليونان المعاصرين، قسطنطين كفافي، وصارت، كما ذكرنا غير مرة، أهم مدن المتوسط وأكثرها تعددا.

من الصعب تعداد الفوائد التي حملها الأوروبيون، فلماذا هلل المصريون للجلاء واستماتوا في حرب السويس؟ لماذا رنت كلمة الاستعمار ذلك الرنين في قلوبهم وعقولهم؟ لأن الأوروبي كان يهين المصري كل يوم، الكاتب المصري والموظف المصري والخادم المصري، وخصوصا الفلاح المصري. تقول ثرية يونانية من أواخر القرن التاسع عشر: إن ضرب المصريين لم يكن حلالا فحسب، بل كان واجبا، لأن لا طريقة أخرى لمعاملتهم.

عامل جميع الأوروبيين جميع المصريين على أنهم درجة متدنية جدا في سلم الطبقات الذي يعتلونه. أقاموا محاكمهم الخاصة (الامتيازات) بحيث لا يقفون مع المصريين أمام قاض واحد، أجازوا لأنفسهم حمل السلاح ومنعوه عن المصريين، وفي 1877 أصدر قنصل فرنسا أمرا لمواطنيه بمواجهة رجال الشرطة المصريين بالأسلحة كلما اقتضى الأمر.

في أواخر القرن التاسع عشر هددت فرنسا بقصف الإسكندرية بالمدفعية إذا لم يعاقب جندي مصري دفع بفرسه، عمدا، مواطنا فرنسيا، أخذ الجندي وفرقته إلى المحاكمة، وحكم على قائد الفرقة بالسجن عشرين عاما! ولم تكن تلك الحادثة الوحيدة، كان ذلك سلوكا أوروبيا عاما حفر المرارة في قلوب المصريين، وكانت الإهانة أكبر بكثير من مواسم القطن ومداخيل القناة، لم يبق في ذاكرة المصريين أو بعثة العرب أو الأفارقة أو الآسيويين سوى ذلك الشعور بالإهانة، الذي لا ينسى.

أكاد أقول: لا يغفر، فالإنسان يسامح في أي شيء إلا الإهانة، وليس مهماً إن كانت استعمارية أو وطنية، ولذا تصبر الشعوب طويلا ثم تقف وتقول: اذهبوا أنتم والقناة إلى الجحيم، واحرقوا مواسم القطن وبذوره، أعيدوا لنا الشيء الوحيد الذي لا حياة من دونه، الكرامة البشرية. من أجل هذه الكرامة أشعل محمد بوعزيزي ناره في ثوب الاستبداد.