ثمن الثورات!

TT

كما لا يوجد غذاء بالمجان فإنه لا توجد ثورات دون أثمان عالية؛ وربما كان الغذاء في النهاية يزيل جوعا، ولكن الثورة لا تعرف أبدا ما هو الثمن المدفوع فيها؛ لأن بعضا منه عاجل يدفع من دماء وأرواح وممتلكات، وبعضه الآخر، وربما كان الأهم، آجل عندما تستقر الثورة على حال ربما لا يكون لها علاقة بوجهتها الأصلية، بل ربما تكون العلاقات الجديدة عكسية تماما عما تمنى الثوار أو تصوروا. المزعج في الموضوع كله إلى جانب «الفاتورة» المدفوعة أن «الثورة»، لسبب ما، تكتسب قدسية خاصة، فلها سمات حقيقية أو غير حقيقية تدعى السعي نحو إقرار العدل والحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية. ولا بأس بعد ذلك إذا ما انهارت بلاد بسبب الثورة، وانقسمت بلاد أخرى، ونزفت دماء غزيرة؛ لأن هناك من يتساءل مستغربا: لم تكن هذه الثورة التي قمنا من أجلها؟

في الفكر السياسي العالمي كان هناك دائما المحافظون الذين نظروا إلى الثورة بشك عميق، وأنتجت الثورة الفرنسية تراثا كاملا ثائرا على الثورة، وبسببها قامت ثورة سابقة هي الثورة الأميركية بإصدار قانون «الفتنة والغرباء»، أما الفتنة فكانت لمن ينقلون أفكار الثورة الفرنسية وبعدها البلشفية، وأما الغرباء فهؤلاء الذين يتبنون هذه الأفكار، ولما كان البلد بلدا للمهاجرين، فالكل يمكن اعتباره غريبا إذا ألمت بعقله ثورة أو جاءه من الشيطان مس. الفكر السياسي العربي، والإسلامي عامة، خاف دائما من «الفتنة»، وهناك دائما إشارات سلبية للفتنة الكبرى، وفي العموم فاز الغزالي على ابن رشد ليس فقط في دور العقل، ولكن أيضا في شرعية الخروج على الحاكم.

ولكن مشكلة الفكر المحافظ، في العموم، هي أنه كان قويا في معاداة الثمن المدفوع في الثورة، ولكنه لم يهتم كثيرا بثمن استمرار الأمر الواقع والعجز عن تغييره. في القرن التاسع عشر فقط ارتبط بعض من فكر المحافظين بالإصلاح، والبعض الآخر بالثورة والتغيير من الداخل؛ حيث يكون الانقلاب بيدي السلطة الحاكمة وليس بيدي عمرو؛ حيث الفوضى والنهايات التي لا يعرف شكلها أحد.

على أي الأحوال فقد عاش جيلنا كله على ثورات الخمسينات التي على الرغم من كونها انقلابات عسكرية، فإنها غلفت نفسها بالثورة بما أحدثته من تغيير اقتصادي واجتماعي. ولما كانت الثورة قد أصبحت بالتأثير وليس بالفكر، لم تكن هناك مشكلة في الدول المحافظة أن تكون لديها «ثورة نفطية» تحدث نفس التأثير الاقتصادي والاجتماعي طالما كانت الدولة في الحالتين هي التي تتولى أحوال المواطن من المهد إلى اللحد. ومع اختلاف في بعض التفاصيل هنا أو هناك، فإن ذلك هو ما صار عليه الحال طوال العقود الستة الماضية، وظل الجميع يحتفلون بنوع ما من الثورة حتى بعد أن توسعت بيروقراطية الدولة العسكرية والأمنية والمدنية، وأصبح المواطنون رعايا لنوع أو آخر من الدول، ملكية كانت أو جمهورية.

ثورات الربيع العربي التي عبرت كل الفصول خلال العام الماضي، وعبرت معنا إلى العام الحالي، كانت مختلفة هذه المرة؛ فلم يكن الأمر بيد نخبة لديها سلطة العسكر أو سطوة التقليد، وإنما جماهير خارجة تبحث عن شكل آخر للدولة غير الذي اعتادت عليه ووجدته لا يتلاءم لا مع طموحاتها، ولا مع نظرتها إلى العالم مع مطلع القرن الواحد والعشرين، ولكن الأمر كله بات لا يزيد على تقليب للتربة الوطنية لكي يخرج منها ما نجحت الديكتاتورية في حجبه طوال العقود الماضية. وببساطة فإن الثورات العربية كانت نظرة فاحصة في المرآة لكي تتبين حقائق الدولة العربية بما فيها من تركيب، على الرغم مما تبدو عليه من بساطة، وما فيها من تعقيد، على الرغم مما تظهر عليه من انسجام، وما فيها من مركزية مفرطة، على الرغم من الواقع الذي خلق التمايزات بين الأقاليم، والملل والنحل، والعقائد والطوائف.

قبل الربيع العربي انقسمت السودان، وقلنا، أو قال بعضنا، إن ذلك إما كان نتيجة مؤامرة أجنبية أو بسبب الديكتاتورية القائمة، ولكن بعد الربيع العربي فإن ليبيا تقف على الحافة بين الفيدرالية والتقسيم، وكذلك اليمن، ولا يعرف أحد كيف ستؤول الأحوال في سوريا بعد أن تطفأ النار ويزول الدخان. وربما كانت الحالة المصرية مثيرة، فما كان معروفا عن قوة الدولة، وانسجام الشعب، فإن الأطراف لا يبدو أنها منسجمة بالقدر الذي كان متصورا في سيناء والصحراء الغربية والنوبة. وكان اجتماع المصريين على بكاء قداسة البابا شنودة الثالث، ربما حزنا على معقل من معاقل الوحدة الوطنية، وخسارة فادحة للعلاقة بين من كان معروفا بـ«عنصرَي الأمة». ولم يكن الأمر يحتاج لكي تكون من سيناء أو النوبة أو من مرسى مطروح لكي يفترق الطريق عن الدولة، كما فعل أهل دمياط وهم يرفضون بإصرار عجيب مصنعا للسماد اختارته لهم الدولة.

ثمن الثورات العربية لم يكن فقط ما سقط فيها من شهداء وجرحى وتدمير، ولكن الثمن الحقيقي كان التعرف على واقع البلدان العربية كما هي، وليس كما تمنت النخب الحاكمة أن تكون وفرضته بقدرتها وسطوتها وأجهزتها الأمنية، والأهم الإعلامية والدعائية. وربما كانت المعضلة الكبرى أن النخب العربية القديمة والجديدة ليست جاهزة بالمرة للتعامل مع الواقع الجديد، أو فهم أشكال جديدة للدولة لم تكن متصورة من قبل. وباختصار لا يوجد «هافل» التشيكي الذي قبل بانفصال سلوفاكيا، ثم عاد واتحد معها من خلال الاتحاد الأوروبي؛ ولا يوجد «ليش فوانسا» الذي قفز من حلف وارسو إلى حلف الأطلنطي، ليس فقط بالمعنى الاستراتيجي للكلمة الذي توافق مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي. وجرت الوحدة الألمانية على الرغم من وجود من رفضها في ألمانيا الغربية خوفا من تكلفة الوحدة الباهظة، ومن رفضها في ألمانيا الشرقية طالما أنه من الممكن أن تكون هناك أكثر من دولة ألمانية، مثل النمسا، فلماذا لا تكون هناك دولة ألمانية ثالثة؟ لم يحدث ذلك على أي حال، ولكن النخبة الأوروبية كان لديها من المرونة والأفكار والاستعداد للتغيير للتعامل مع الضرورات التي خلقتها الثورات المختلفة في شرق ووسط أوروبا.

الأمر في العالم العربي مختلف تماما، فالنخبة لم تكن جاهزة بالمرة للتعامل مع الواقع الجديد حتى بعد أن بذلت جهدا كبيرا في تقويض الواقع الجديد، ولكنها لن تجتهد أبدا في تحديد ما سوف يأتي بعده، اللهم إلا باستدعاء الأفكار المحبطة للأزمنة الديكتاتورية العقيمة. هل نحتاج أن نضرب أمثلة من قيادات الثورة السورية، والحالة المزرية التي وصلت إليها قيادات الثورة المصرية، أو الحالة الباعثة للاندهاش حينما تنشب الثورة في برقة فتكون القيادة فيها لبدء عملية تفكيك الدولة قبل قيامها الجديد على أسس دستورية وقانونية؟

ثمن الثورة النهائي هو تسليمها لمن كان جاهزا بمشروع متكامل لكي يأخذ البلاد العربية بثوراتها إلى أزمان ماضية لا علاقة لها بحاضر أو مستقبل.