الملجأ الأخير للأوغاد

TT

من حكميات الدكتور جونسن الشهيرة في القرن الثامن عشر قوله: Patriotism is the last refuge for villains (الوطنية الملاذ الأخير للأوغاد) ينطبق طبعا هذا القول على أحوال شعبه في ذلك العصر الذي اشتد فيه النزاع بين المحافظين الذين ادعوا بالوطنية العنصرية والأحرار الذين دعوا للحرية والاندماج. ما يعنيه القول بالنسبة لنا الشوفينية، أو القومية المتطرفة. تذكرت ذلك أثناء زيارتي لمنطقة ويلز من بريطانيا. خاض الويلزيون حروبا ضارية ضد الإنجليز، ولكنهم غلبوا على أمرهم في الأخير، وألحق الإنجليز منطقتهم بإنجلترا. فرضوا عليهم استعمال اللغة الإنجليزية بصورة قسرية. كانوا يضربون التلميذ إذا نطق بكلمة واحدة غيلكية (اللغة الأصلية). ولكن ويلز هبت مؤخرا وطالبت بالحكم الداخلي وإحياء اللغة القديمة. نجحوا في كليهما. واختلط الآن الحابل بالنابل، مدينة تحافظ على الإنجليزية وأخرى تتمسك بالغيلكية.

راحوا يترجمون ويكتبون كل شيء باللغتين. في المدن القريبة من حدود إنجلترا يضعون الإنجليزية فوق والغيلكية تحتها، وفي المدن البعيدة يضعون الغيلكية فوق والإنجليزية تحت. وبالطبع تضخمت ميزانية ذلك، فاللوحة المكتوبة بلغتين تتطلب مساحة أكبر وتكلفة أكثر.

بقيت مناطق تستعمل الإنجليزية فقط. وراح الأغنياء الإنجليز ونجوم السينما والكرة يفضلون شراء بيوتهم وفيلاتهم والاصطياف في هذه المناطق، فارتفعت أسعارها. امتعض القوميون الويلزيون من ذلك، فطالبوا بفرض استعمال اللغتين، ولكن ذلك يعني تجاهل حقوق الإنسان وحرية الخيار. انشغلت المحاكم والمجالس المحلية بهذه المنازعات، وما زالت.

على الطرف الآخر، تفجر الموضوع في ميدان الدراسة. اقتضى ترجمة كل الكتب المدرسية إلى الغيلكية. لاقت العملية كثيرا من المصاعب، فهذه لغة فولكلورية لم تعد للتعامل مع الشؤون العلمية والتكنولوجية كالإنجليزية. وأصبح على التلاميذ أن يتقنوا لغتين ليضمنوا لأنفسهم فرصا أكبر للعمل، ثم يجدون أن عليهم أن يتخلوا عن لغتهم الغيلكية كليا عندما يدخلون الجامعة. وهنا خاض القوميون معركة أخرى في فرض الغيلكية على الدراسة الجامعية بترجمة كل الكتب العلمية لهذه اللغة. لم يمكن غير ترجمة المصادر الرئيسية. وفي آخر المطاف لم يجد التلاميذ غير أن يستسلموا كليا للإنجليزية، ولا سيما في دراسة مواضيع كالطب.

كل ذلك في رأيي زوبعة في فنجان، ولكنها زوبعة مكلفة جدا في المال وفي الوقت والجهد، لا يبررها غير التعصب الشوفيني القومي. الويلزيون قوم عاطفيون يغلب عليهم الشعر ويختلفون عن الأسكوتلنديين العمليين. حالما اندمجت أسكوتلندا بإنجلترا في القرن السابع عشر وجدوا من الأفضل لهم أن يعتمدوا اللغة الإنجليزية وينسوا لغة الآباء والأجداد. وعلى الرغم من أنهم طالبوا كذلك مؤخرا بالحكم الذاتي وحصلوا عليه، ويسعون الآن للحصول على الاستقلال التام، فإنه لم تظهر عندهم أي رغبة لإحياء واستعمال لغتهم الغيلكية القديمة. ولعل الفرق يعود للأسلوب، فالويلزيون فرضت عليهم اللغة الإنجليزية بالقوة فأصبح التمرد عليها واجبا وطنيا. أما الأسكوتلنديون العمليون فقد اختاروا الإنجليزية بإرادتهم. أدركوا أن الاستقلال لا يتطلب لغة مستقلة. ثار الأميركان على إنجلترا ونالوا استقلالهم على الرغم من تمسكهم بالإنجليزية. وهذا كله كلام أسوقه لمعرفة دولنا المتعددة القوميات.