مرحلة التنقيط في الحلق

TT

دخل الفلسطينيون في زمن الربيع العربي، مرحلة التنقيط في الحلق الجاف، قطرة قطرة، وذلك لكي يبقوا على قيد الحياة السياسية، إلى حين إنضاج خلاصات المرحلة، خصوصا على صعيد قطبيها الإسرائيلي والأميركي.

عملية التنقيط في الحلق تمارسها الدول المانحة التي يتنازعها في الشأن الفلسطيني همان أساسيان:

الأول: إعادتهم إلى مسار المفاوضات دون قيد أو شرط كسبيل وحيد لحل قضيتهم السياسية وحتى الاقتصادية.

والثاني: التوسط لدى إسرائيل لتخفيف قيودها حتى يتمكن الاقتصاد الفلسطيني «المعتل» من مساعدة الدعم الدولي على الوفاء بالاحتياجات.

وهذه الحالة الضاغطة على الفلسطينيين يضاعف من أذاها الأداء الفلسطيني المرتبك والمتردد والمرتجل للمهام السياسية التي يفترض أن تؤدى في ظرف من هذا النوع، ولعل أخطر مردودات هذا النوع من الأداء هو توفير ذرائع للآخرين كي يحجموا عن تقديم ما يفترض أن يقدم من دعم سياسي واقتصادي.

لقد ارتبك الخطاب السياسي الفلسطيني على نحو شامل وبدا كما لو أن المتناوبين على تقديم هذا الخطاب، وهم كثر، يبلبلون العالم في أمر ما يريدون وما لا يريدون، وقبل ذلك يبلبلون العرب والفلسطينيين الذين لم يعودوا يعرفون ما هو الخطاب؟ وما هي الاتجاهات؟ وكيف تدعم كي تصل إلى أهدافها.

هنالك من تحدث عن حل السلطة، وتسليم مفاتيحها للإدارة المدنية الإسرائيلية في مستوطنة بيت إيل، وهذا أمر يدعو الأصدقاء والأشقاء وحتى المؤلفة قلوبهم إلى الحذر والإمساك عن الحسم في المواقف.

وهنالك من طرح فكرة خيار الدولة الواحدة، بديلا عن خيار الدولتين دون الانتباه إلى أن موازين القوى على الأرض في هذا الوقت تجعل من طرح حل الدولة الواحدة كما لو أنه إلحاق الطرف الضعيف بالطرف الأقوى، فهل يعقل أن تشاركنا إسرائيل في تل أبيب ونحن نعاني من سطوتها على رام الله.

وهل نتوقع أن يتبعنا العرب والمسلمون في هذا الطريق ونحن من ورطناهم في خيار حل الدولتين؟!!

وهنالك من يفتح ملف المصالحة، بإخلاص ويقين باستحالة تحقيق أي تقدم دون حسمه، وبالمقابل هنالك من يقرر ببرود أعصاب وضع الفكرة والآليات والعملية كلها في ثلاجة، كما توضع الأطعمة البائتة المهددة بالفساد والتعفن.

وهنالك من يدعو إلى تقشف لعل وعسى نسد خانة من خانات العجز المتفاقم والمتمادي في وضعنا.

هذا بعض ما يطفو على السطح عندنا، وفوقه الكثير مما نعرف وما لا نعرف.. إلا أن الذين يراقبون حياتنا في سياق رقابتهم لحياتهم مثل الدول المانحة والكثير من الدول الداعمة الصديقة والشقيقة، فإنهم يعرفون عنا أكثر مما نعرف.. يعرفون كم سيارة نشتري وكم غالون بنزين ننفق وكم موظفا يتقاضى راتبا وهو خارج الوطن أو وهو في أي مكان إلا مكان العمل.. وإلى أي مدى بلغ التهرب الضريبي والتحايل عليه وإلى أي مستوى وصل التضخم الوظيفي.. والإنفاق التطفلي في كل الاتجاهات.

وإذا ما قلنا إن ظواهر من هذا النوع، موجودة في كل زمان ومكان وإننا نحاول الحد منها أو التخفيف من آثارها.. إلا أن ما يبدو غريبا حقا هو الجمود السياسي الداخلي الذي لم يبلغ في التاريخ ما بلغه الآن.

كانت الحالة الفلسطينية المثخنة بالجراح والموت والحصارات تتمرد على واقعها، بحيوية شاملة، بدأ من الاتحادات والجمعيات والنقابات.. والمجالس المحلية على مختلف أنواعها، فتتحول إلى شعلة نشاط في التفاعل مع المجتمع ومع نظيراتها في العالم، وتجري انتخابات دورية، واستبدالا ديمقراطيا للوجوه والقادة وحتى أدنى المستويات.. كان ذلك يعبر عن الهوية الحقيقية للشعب الفلسطيني والرصيد الحقيقي للقوة المادية والمعنوية لهذا الشعب. كنا نجري في بعض المواسم ألف انتخابات حرة قوية فعالة، لكل جوانب حياة مجتمعنا... حتى ممثلي شعبنا المهاجر إلى أميركا اللاتينية في المجلس الوطني، جاءوا منتخبين وليسوا معينين.

أين نحن الآن من هذا كله؟

إن ما يبدو حبيس الثلاجة ليس اتفاق المصالحة وحده بل مصير الشعب والقضية، فأين المبادرات يا أولي الأمر؟

دون هذه المبادرات سنظل نعيش مرحلة التنقيط في الحلق.. ليس من أجل أن نحيا وإنما من أجل أن لا نموت.. والفرق كبير وكبير جدا.