ما فعله «إخوان» سوريا هل يشعل النيران في حقول الجماعات «الإخوانية»؟!

TT

ما أعطى الخطوة التاريخية، التي اتخذها الإخوان المسلمون السوريون بإعلان الخطوط العامة لمشروعهم السياسي لمستقبل سوريا بعد إسقاط هذا النظام، الذي لم يعد هناك ما يشبهه في العالم كله إلا نظام كوريا الشمالية، أنها جاءت بعد بدء توحيد المعارضة السورية بدمج المجلس العسكري بقيادة العميد مصطفى الشيخ بالجيش الحر بقيادة العقيد رياض الأسعد، بأيام قليلة وعشية انعقاد المؤتمر التوحيدي لهذه المعارضة، وانعقاد الاجتماع الثاني لـ«أصدقاء سوريا» في إسطنبول، وبينما أعلن المبعوث الدولي والعربي كوفي أنان من موسكو أنه على أطراف الأزمة السورية عدم مقاومة رياح «التغيير» الذي هو مقبل لا محالة.

ولعل الأدق مما أُطْلِقَ من أوصاف على هذه الخطوة التاريخية فعلا، التي وضعت كل تنظيمات الإخوان المسلمين في العالم بأسره أمام تحديات واستحقاقات القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة، هو ما نسب لحركة الرابع عشر من آذار اللبنانية، بأنها قالت إن ما أقدم عليه الإخوان المسلمون السوريون يشكل في وقته ومضمونه إضافة أساسية ونوعية لوعود ثورات الربيع العربي.

لقد تضمن هذا المشروع السياسي، الذي من المفترض أنه أراح كل مكونات المجتمع السوري السياسية والحزبية والطائفية والدينية التي كان يؤرقها الخوف من مستقبل بات قريبا قد يُستبدل فيه استبداد الحزب الأوحد وهيمنة العائلة الواحدة باستبداد ديني، وليس إسلاميا، على غرار ما حدث في أوروبا في القرون الوسطى، وأيضا غداة وبعد الثورة الفرنسية العظيمة، لقد تضمن هذا المشروع عددا من الأمور البالغة الأهمية التي كان لا بد من إيضاحها بعد عام من انطلاق الثورة السورية، من بينها التأكيد على الدولة المدنية الحديثة وعلى ديمقراطية وتعددية هذه الدولة، والتزامها بحقوق الإنسان، ورفضها للتمييز، وتمسكها بالحوار وبالمشاركة، واستبعادها للاستئثار والإقصاء و«المغالبة»، وتشديدها على احترام حقوق سائر مكونات هذه الدولة، العرقية والدينية والمذهبية، واعترافها بخصوصية كل هذه المكونات بأبعادها الحضارية والثقافية والاجتماعية وبحق التعبير عن هذه الخصوصية.

لكن أهم ما تضمنه هذا المشروع، الذي يجب أن يصبح ملزما لكل قوى الثورة السورية وفصائلها، هو التأكيد على أن دولة المستقبل، بعد ظلام دامس بقي يلف هذا البلد لنحو خمسين عاما وأكثر، هي دولة «مواطنة ومساواة» يحق لأي مواطن فيها الوصول إلى أعلى المناصب استنادا إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة، كما يتساوى فيها الرجال والنساء في الكرامة والإنسانية والأهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة.

ولمزيد من إيضاح هذا الجانب الهام جدا، قال المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين في مؤتمر صحافي عقده في إسطنبول، الأحد الماضي، إن «الإخوان» مع إقامة دولة ديمقراطية تعددية، وإنه لا فرق لديهم بأن يأتي مسيحي أو مسلم أو امرأة للرئاسة ما دام أن الفائز يستحق منصبه نتيجة تصويت شعبي.. وقد استطرد رياض الشقفة قائلا: «إن المجتمع السوري لم يكن يوما طائفيا، ففارس الخوري (مسيحي ماروني أصله من الجنوب اللبناني) انتُخب مرات عدة رئيسا للحكومة السورية لأنه كان كفؤا ولم يرفضه أحد لمسيحيته». وحقيقة أن هذا يشكل ثورة هائلة في الفكر «الإخواني» الذي بقي تقليديا ومحافظا ومتوقفا عند لحظة تأسيس «الجماعة» الأم قبل نحو خمسة وثمانين عاما، ووفقا لما كان قاله حسن البنا وأحمد السكري الذي انفصل عنه لاحقا، ويومها كانت المَلَكية المصرية في ذروة تألقها في عهد الملك فؤاد وعهد الملك فاروق، وكانت الأمية في المجتمع المصري وقتها تصل أرقاما فلكية بين الرجال وبين النساء.

بهذه القفزة ارتقى «إخوان» سوريا بتنظيمهم إلى مستوى الأحزاب الديمقراطية والمدنية و«العلمانية» أيضا، إن في الشرق البعيد وإن في الغرب، ووضعوا إخوانهم في مصر وفي الأردن وكل الدول العربية التي لهم فيها وجود تنظيمي، وأيضا في العالم الإسلامي والعالم كله، على مفترق طرق، وأمام خيارين استراتيجيين وحاسمين؛ إذ إما الالتحاق بهذه الخطوة واتباع هذا النهج الثوري والحضاري الجديد، أو الانكفاء والاستمرار بالتمسك بالماضي والبقاء في الخنادق القديمة ومواصلة اجترار نظريات سياسية بائدة لم تعد تلائم القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة، ولم تعد مقنعة حتى للأجيال الشابة الصاعدة من أبناء هذه «الجماعة» التي بقيت ترفض التجديد وتعتبره رجسا من عمل الشيطان وتدعو إلى اجتنابه!!

وهنا للإنصاف، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن «إخوان» مصر و«إخوان» الأردن باتوا يعيشون بعد «تسونامي» الربيع العربي، الذي ضرب هذه المنطقة قبل نحو عام وأكثر، والذي لا يزال يضربها بعنف وقوة، حالة تململ داخلي قد تتبلور في النهاية إلى «مفاصلة» تنظيمية بين تيار إصلاحي أعطاه «الإخوان» السوريون بهذه الخطوة التاريخية الهائلة دفعة تشجيعية قوية، وبين تيار تقليدي متحجر يرفض الخروج من الخنادق، بل الكهوف القديمة، وحيث يطالب الإصلاحيون، الذين يمثلهم في مصر مؤيدو مرشح الرئاسة عبد المنعم أبو الفتوح والنائب السابق للمرشد محمد حبيب، بينما تمثلهم في الأردن مجموعة صغيرة بقيادة أحد المرشحين لموقع المراقب العام هو الشيخ عبد الحميد القضاة، بإعادة «الجماعة» الإخوانية إلى مهمة يوم تأسيسها وانطلاقها التي هي «الدعوة»، والابتعاد نهائيا عن أي ممارسات سياسية.

لقد أنهى الإخوان المسلمون السوريون، بهذه الخطوة التاريخية الرائعة والواعدة، كذبة أن الأقليات السورية مهددة بالفناء من قبل هذه «الجماعة» التي ادعى نظام بشار الأسد أنها تشكل خطر الإسلام السياسي السني على هذه الأقليات، والملاحظ هنا أن المستشرق سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، قد اتهم ثورة الشعب السوري، في تصريحات له قبل أيام انفردت بفضحها وبالرد عليها صحيفة «الشرق الأوسط»، بأنها تسعى لإقامة نظام سني مكان هذا النظام القائم الذي هو نظام طائفي، وليس نظام الطائفة العلوية. وهنا أيضا، ومن قبيل المراهنة على أن هذا الذي بادر إليه «إخوان» سوريا سيؤدي، بالإضافة إلى وضع حد لأكاذيب نظام بشار الأسد الذي بقي يروج لخطر وهمي داهم، على الأقليات الدينية السورية، إلى صحوة شاملة بالنسبة لحركات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها تنظيم الإخوان المسلمين في المنطقة العربية والعالم بأسره، فإنه لا بد من مصارحة هؤلاء «الإخوان» الأعزاء بأنه لا بد من استكمال خطوتهم هذه الهامة والتاريخية بخطوة لاحقة هامة وتاريخية أيضا، وهي الإبقاء على «الجماعة» كجماعة دعوية وإصلاحية لا علاقة لها بالسياسة، لا من بعيد ولا من قريب، والمبادرة وبسرعة، لأن عامل الوقت في غاية الأهمية، إلى إنشاء حزب سياسي جبهوي قد يحمل اسم «حركة التغيير والديمقراطية»، بإمكانه استيعاب أبناء الأقليات الدينية والطائفية والقومية، ويكون تنظيما مفتوحا أمام السوريين كلهم على مختلف انتماءاتهم المذهبية والطبقية، بإمكانه أن يشكل العمود الفقري للثورة السورية بشقيها المدني والعسكري، إن الآن في هذه المرحلة الصعبة والحاسمة التي تتطلب الوحدة وصب كل الجهود في اتجاه واحد، أو في المرحلة الانتقالية القريبة التي ستكون أدق المراحل وأخطرها، والتي يجب أن تُفضي إلى الدولة الوطنية المنشودة التي حدد مواصفاتها المشروع السياسي «الإخواني» الآنف الذكر، الذي تم الإعلان عنه بخطوطه العامة قبل أيام.

لقد انطلق «الإخوان» بالمشروع السياسي الذي أعلنوا عنه قبل أيام، انطلاقة هائلة ستكون بمثابة الشرارة التي ستلهب حقل منظمات وتنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة العربية وفي العالم بأسره، ولهذا فإنه غير جائز أن يبقى هؤلاء يعيشون في جلباب تنظيم قديم ليس له أي علاقة لا بهذا العصر ولا بمنطلقاته واستحقاقاته، فجديدهم الذي أعلنوا عنه قبل أيام يتطلب اسما جديدا يتمتع بالرشاقة وبجاذبية استدراج الأجيال الصاعدة واحتوائها، وبخاصة من منهم من مكونات المجتمع السوري كلها، بما في ذلك الأقليات التي حاول هذا النظام الاستبدادي تجنيدها لتكون قوة مضادة للثورة، التي ثبت أنها لا مذهبية ولا طائفية ولا فئوية ولا عنصرية، وأنها للجميع ولشعب سوريا كله.