«يوم الأرض».. أو «قيمة» الوطن

TT

بينما كان وزراء الخارجية العرب يحضرون لانعقاد القمة في بغداد، وجه الإسرائيليون تحية نادرة لهم (!!!) وقد تمثلت التحية الناجزة - أي في أثناء انعقاد الاجتماع - في اقتحام مئات الجنود الصهاينة المسجد الأقصى، والعبث فيه.

كان ذلك يوم الخميس الماضي.

وأمس الجمعة: وافق ذكرى «يوم الأرض»، وهو اليوم الذي يحييه الفلسطينيون ومؤيدوهم في العالم.. كل عام: تجديدا للإحساس بـ«الأرض»، وتعاهدا على الكفاح من أجل تحرير وطنهم المغتصب.

والقضيتان مترابطتان.. فالمسجد الأقصى يثوي في «أرض»، فالمساجد والمقدسات ليست معلقة في الهواء. وإنما هي موجودة على «أرض».

وهذه مناسبة جيدة لكتابة سطور «تأصيلية» عن «قيمة» الوطن، ولا سيما بعد أن اضطربت المفاهيم حول «الوطن» و«الوطنية».. فمن الناس من حط - باسم الدين - من قيمة الوطن حيث خطب أحدهم فقال: «الحمد لله الذي جمعنا على العقيدة والدين، ولم يجمعنا على النسب والطين». فهذا القول لا تستسيغه البداهة الفطرية والعقلية، ولا قيمة علمية أو فكرية له عند التثبت والتحقيق. فالاجتماع على العقيدة والدين نعمّا هو، بيد أن هذه الآصرة الدينية الشريفة لا تتناقض - قط - مع الاجتماع على آصرة النسب والطين ولا تلغيها - بالتالي - فالناس منذ وجد أبوهم الأول آدم - عليه السلام - يجتمعون على الطين أو الأرض، ذلك أن الله جل ثناؤه جعل «الأرض» مستقرا للبشر: «وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ».. أما آصرة النسب، فقد أثبت المنهج.. الاجتماع عليها: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا». فمن التكلف - من ثم - افتعال تضاد بين الدين والوطن أو بين العقيدة والوطنية.. وثمة فريق آخر: اضطرب مفهومه - على نحو مضاد للأول - هذا المفهوم جعل الوطن والوطنية بديلا للدين أو ندا له، ولئن كان المفهوم الأول الخاطئ «جهالة ذاتية»، أي من نتاج الذات وإبداعها السقيم (!!!).. فإن المفهوم الثاني «صناعة مجلوبة» من الخارج: من أقوام هربوا من دينهم - لأسباب عديدة - واعتصموا بـ«الوطنية» كبديل.

وبإماطة هذين المفهومين عن الذهن والوعي: يأتلق المفهوم السوي الرضي في هذا المجال. فالإسلام لا يضيق بأي نزعة جبلية وطنية نبيلة ثجاجة بالعطاء - في كل حقل - فقد استوعب الإسلام - من قبل - منازع العرب الأصيلة، وطاقاتهم الموفورة المكنونة المتنوعة، ووسع لها الطريق، وفتح أمامها الآفاق، وحفزها على التسامي المتدرج الوثاب: وفق استعداد كل طاقة وميولها.. كان العرب يحبون أوطانهم ومضاربهم حبا شديدا، ويباهون بها ويغالون فيها، فجاء الإسلام فأبقى على الحب الفطري السوي الأصيل، وجرده - في الوقت نفسه - من الغلو والعصبية، واستمداد قيمة التفاضل بين الناس منه.

وكما افتعل أقوام التناقض بين الدين والوطنية - جهلا من عند أنفسهم - افتعل أقوام آخرون - في عصرنا هذا: التناقض بين مفهومي: «الوطنية» و«العالمية»، بمعنى أن العالمية، أو العولمة - باشتقاق آخر - لا تتحقق إلا على أنقاض السيادة الوطنية، أو بالانتقاص منها، على حين أن لا تناقض - قط - بين العالمية الرشيدة والوطنية المستقيمة المفهوم والسلوك. وإنما يحدث التناقض من الفهم الخاطئ للعالمية، كأن تفهم بأنها «قضم» حتمي من سيادة كل دولة، وأنه من مجموع هذه القضمات يتركب «مفهوم العالمية».. أو يحدث التناقض بين الدائرتين من النظرة التعسفية إلى الوطنية، وهي نظرة الانغلاق «الحتمي»: كتدبير ضروري للحفاظ على الهوية الذاتية!

لقد نادت الماركسية بـ«الأممية» التي تلغي القوميات والوطنيات وتكبتها.. وحصل أن طبق ستالين هذه النظرية على نطاق واسع (وهذا سبب من أسباب تمرد جوزيف تنيتو وماوتسي تنج عليه).. وكلمة العولمة اليوم - بمفهومها الاستعلائي المنحرف - ترجمة لمصطلح الأممية الماركسي. ومن هنا ينادي سدنة هذا النوع من العولمة المنحرفة بإلغاء السيادات الوطنية أو الانتقاص منها، بالضبط كما فهم ستالين الأممية وطبقها.

ولنعد إلى «يوم الأرض» الفلسطيني.. فالواقع الدولي أو العالمي يقول: إن لكل شعب على هذا الكوكب أرضا ودولة: ما عدا الشعب الفلسطيني، فلماذا هذا الحرمان «الكوني» أو الاستثناء العالمي الشاذ للشعب الفلسطيني وحده؟!: أليسوا أناسا من الناس؟!.. أليسوا آدميين لهم حقوق مماثلة لبقية بني آدم؟!

فمن قال: إنهم ليسوا أناسا ولا آدميين.. فهو طاغية كاذب، وفاجر مستخف بعقول البشر، وحقائق التاريخ والواقع، بدليل أن الفلسطينيين بشر من البشر يحملون جينات البشر كافة.

ومن قال: إنهم أناس آدميون.. فإن المترتب المنطقي والقانوني والأخلاقي على هذا القول هو: أن من حق الشعب الفلسطيني: أن يتمكن ويقر في وطنه.. ولما كان «لص» أرضهم الصهيوني لا يزال مصرا على تشريدهم، حيث إن مهاجريه الغرباء قد استوطنوا بيوت الفلسطينيين ومزارعهم ودكاكينهم، وكل شيء.. لما كان «لص» أرضهم على هذا النحو، فإن من حقهم أن يكافحوا من يحتل أرضهم. فإنه من الظلم البواح، ومن السخرية المستفزة بحقوق الإنسان: أن يشرد المواطن الأصلي من أرضه، على حين يتمكن اللص المحتل من هذه الأرض!

ويواجه الفلسطينيون «يوم الأرض» هذا العام بمشاعر قلقة ومختلطة:

1- فهناك فرحتهم بأن «الربيع العربي» سيخدم قضيتهم، بحسبان أن هذا الربيع قد دفع بتيارات إسلامية عرفت في التاريخ بأنها من أنصار القضية الفلسطينية.

2- وهناك حزنهم - في الوقت نفسه - على أن قيادات هذه التيارات قد ضمر لديها الإحساس السابق بالقضية الفلسطينية (وهناك قرائن عديدة على ذلك).

في ضوء ذلك وجدت حماس - بالذات - نفسها بين خيارين كلاهما شديد المرارة والحيرة:

أ- خيار: تفضيل الحزبية الإخوانية وحسابها على القضية الفلسطينية.. وهذا مقتل وجودي بلا ريب.

ب- وخيار: أن فلسطين قبل الإخوان.. وهذا مقتل سياسي بلا شك، ولكنه أخف وطأة، وأفضل عاقبة من المقتل الأول.

بقيت نقطتان نحسبهما متممتين لما سبقهما:

1- النقطة الأولى هي: أن إسلاميي أوروبا أو الغرب دعوا إلى المشاركة الفاعلة في «يوم الأرض».. ومن المحتمل أن ذلك قد تم بالتنسيق مع التنظيمات الأم.. لماذا؟.. لأن هذه التنظيمات قد دخلت في مراحل حسابات سياسية جعلتها تحجم عن تجييش الجماهير في بلدانها من أجل المشاركة في «يوم الأرض» العالمي هذا. ولذا بدا الأمر وكأن الأتباع في الغرب قد كلفوا بالتحرك نيابة عن التنظيمات الأم.. والمعنى المستنبط - ها هنا - هو: أن هذه التنظيمات التي تولت الحكم أو اقتربت منه قد دخلت في حقبة «تبرير» عدم القيام بالمسؤوليات الواجبة في القضايا العامة، وهو تبرير ينشئ السؤال التالي: ألم تتذرع الأنظمة الهالكة بذات المنطق التبريري؟!.. فما الفرق إذن؟!

2- النقطة الثانية هي: أن التيارات الإسلامية قد ثارت على أنظمة ورؤساء بسبب «ظلمها» الممنهج للناس.. والسؤال هو: وماذا عن ظلم إسرائيل الممنهج للفلسطينيين؟!.. ولماذا التمييز بين ظلم وظلم؟!