المعركة الدائرة في مصر اليوم حول تشكيل لجنة الدستور أمر محزن لا يبشر بخير. الجميع، تقريبا، انسحبوا احتجاجا على تسلط الإسلامويين (سماهم أحدهم على «فيس بوك» الإخوان المظلمين). بل إن انسحاب الأزهر من لجنة غالبيتها يصيحون «الإسلام هو الحل» هو تحذير تاريخي سيأتي تجاهله بعواقب أشد وبالا مما ألحقه انقلاب العسكر 1952 بالمحروسة، وبما تبعه من انتهاكات للحريات ولحقوق الإنسان، وخراب الاقتصاد وإهدار الدماء في حروب الكولونيل ناصر.
المراقب لنشاط بيروقراطية الدولة يلاحظ أن زيادة عضوية أي لجنة على عدد أصابع اليد الواحدة معناها تعمد أصحاب المشروع إفشاله. في بريطانيا مثلا الـ«Civil servants»، موظفو الدولة المستقلون عن الحكومة، عند مواجهة مشروع (مخالف لمزاج البيروقراطية) تفرضه الحكومة الجديدة تنفيذا لوعد الانتخابات، تجدهم يزيدون عدد أعضاء اللجنة المختصة، فتنتهي مدة الحكومة برلمانيا قبل اتفاق اللجنة على صيغة تقديم المشروع للبرلمان! فما بالك بمصر التي تعرض عقلها الجماعي لتخريب نصف قرن من القصف العشوائي من قوى «التجهيل وقلة التربية» التي استولت على وزارة المعارف العمومية عام 1958؟
كان جدي - وكغيره من الأوروبيين شارك في العمل الوطني منذ ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول باشا - يقول «اجمع ثلاثة مصريين في عمل سياسي وستخرج بأربعة اتجاهات». فكم اتجاها سيتمخض عنها اجتماع 100 مصري (وليس ثلاثة مصريين)؟
ملاحظة جدي تعود لمراقبته العمل السياسي منذ مرحلة ما بعد مصطفى باشا كامل مرورا بأحزاب الوطني (1908) والأمة، والوفد الذي انقسم وانشق عنه السعديون. والوفد الجديد بعد رحيل فؤاد سراج الدين باشا، آخر الرجال المحترمين من العهد البرلماني الديمقراطي (1922 - 1952) انشق عنه حزب الغد، الذي انشق بدوره لمجموعتين. بل إن الشيوعيين، في الخفاء أثناء ديكتاتورية الكولونيل عبد الناصر (زج بمعظمهم في المعتقلات ليقتل التعذيب زعماءهم ما بين 1958 و1964) انقسموا إلى عديد من الأحزاب والتيارات.
والانقسامات قد تكون ضرورة تطور تاريخي في الديمقراطيات الناضجة، ونادرة التكرر (انشقاق مجموعة الديمقراطيين الاشتراكيين عام 1980 عن حزب العمال البريطاني هو الوحيد في 120 عاما)، أما في المشهد المصري فتتكاثر التيارات السياسية كـ«بروتوزوا الأميبا» التي يعرضها معلم البيولوجيا تحت الميكروسكوب على تلاميذ الابتدائي كنموذج لأسرع تكاثر بالانقسام في المملكة الحيوانية.
لجنة من مائة عضو؟.. «يا للهووووول».. اسمع صيحة يوسف بك وهبي من مقبرته.
عضوان لكل مادة؟.. عدد مواد الدستور الأميركي أقل من ثلث عدد أعضاء لجنة الدستور المصري، و«العدد في الليمون» حسب حكمة سخرية التعبير من تناقص المنفعة بزيادة العدد (فبضع نقاط من ليمونة واحدة كافية لإضفاء المذاق المطلوب). والعدد ليس المشكلة الأكبر، فالخطر التاريخي يكمن في البلادة المتأصلة والعطب الذهني للفكرة نفسها.
فبعد نجاح ثورة 1919، وعودة سعد باشا ورفاقه من المنفى ليكتسح «الوفد» الانتخابات، لم يسيطر حزب زعيم الأمة (بشرعيتي الثورة والانتخابات) على لجنة الدستور التي خلت من الساسة (نواب البرلمان أو خارجه)، وإن ناقشوا أفكارهم ومقترحاتهم علنا في الصحافة والمناظرات. اقتصرت اللجنة على المحامين وفقهاء القانون متعددي الأديان والجنسيات، للاستفادة من تجارب أوروبية سبقت مصر ديمقراطيا (عند إنشاء السكة الحديد من الحماقة البدء بدواب تجر القطار ثم التطور «بفهلوة» الاستقلال عن الغرب، بدلا من استيراد أحدث قاطرة) فكان دستور 1923 (الدستور باشا)؛ واختفاء الإشارة إليه من اللغة السياسية المصرية اليوم، لغزا يستعصي فهمه.
فلا نعرف ديمقراطية ناجحة صاغت دستورها لجنة منتخبة من البرلمان، وهو بدوره منتخب. فالدساتير هي حماية للفرد، ذكرا أو أنثى أو طفلا أو جنينا، والأقليات، ومن ليس لهم تمثيل في البرلمان؛ ربما لقصور نظام التمثيل النسبي (القوائم)، أو لارتفاع الأمية، أو لتخويف الناس باسم الدين.
فمثلا تتضح الضرورة الديمقراطية لمجلس اللوردات (الشيوخ) غير المنتخب في برلمان وستمنستر بوقوفه سدا ينظم تدفق شلال الأغلبية في مجلس العموم (المنتخب)، بهدف حماية مصالح من لا تمثيل برلمانيا لهم. فالأقليات، والمثليون، والمعاقون ليسوا أغلبية في دائرة وحدة، فلا تمثيل مباشرا لهم، كذلك سكان عشرات الجزر التي لا تزال إقطاعيات ومحميات تابعة للتاج.
فالديمقراطية كتطبيق عملي هي الحفاظ على تماسك المجتمع واستقراره: بحماية الفرد من طغيان «المصلحة القومية»، والأقلية من غرور الأغلبية، والأطفال من تسلط الكبار، والشعب من حماقات عواطفه. فمثلا: استفتاء صبيحة قتل سادي شاذ لطفلة بعد اغتصابها ستكون نتيجته تصويت الأغلبية لإعادة حكم الإعدام؛ أما إذا عرض التلفزيون مشهدا دمويا لإعدام مذنب بالمقصلة ثم اتضحت براءته لاحقا، ستصوت الأغلبية لإلغاء عقوبة الإعدام. ولذا لا بد من فصل العواطف التي تؤدي إلى تغيير المزاج السياسي للناخب عن عمل الهيكل العام لمؤسسات الحكم.
الديمقراطية ضوابط وتوازنات: من فصل الدين عن الدولة، وبدورها عن الحكومة المنتخبة، والقضاء عن الثلاثة، والصحافة المستقلة عن الجميع.
أهم الضوابط في ديمقراطية بريطانيا (وللتوازن مع مجلس العموم حيث تسيير الأغلبية جدول أعماله) هو مجلس اللوردات الذي يفصل بين تقلبات العواطف، ومصلحة الأمة واستقرار المجتمع بحماية مصالح الأفراد، والأسرة، والأقليات. ولأنه من شبه المستحيل أن يحقق مجلس الشعب الحالي (المضحك في بليته) معجزة اقتصادية لصالح الناخبين في أربع سنوات؛ فماذا يحدث عندما تخسر الأغلبية الانتخابات القادمة؟ هل تختار الأغلبية الجديدة لجنة (من 200 فالعدد في الليمون) لإعادة كتابة دستور جديد؟
الدستور يجب أن تعده لجنة خالية تماما من الساسة، منتخبين أو غير منتخبين، وتقتصر على عدد بسيط من الجنسين من القضاة والمحامين الدستوريين (ولا مانع من استشارة التيارات المختلفة، وفقهاء «جميع» الأديان)، ويا حبذا لو تخلى المصريون، ولو مرة، عن عنجهية «الفهلوة» الوطنية ليستعينوا بخبرة فقهاء دساتير الديمقراطيات العريقة.
ولتعذر التوصل لهذا التوافقية القومية (general consensus) في الظروف الحالية، فالأفضل «لا دستور ولا يحزنون». فبريطانيا، أكثر الديمقراطيات استقرارا، ليس فيها دستور أو قانون مكتوب، وتدار الانتخابات البرلمانية بالتقاليد والقضاء بالحجة وليس باللوائح. ولم نسمع بأغلبية تقترح فرض الجزية على الأقلية.
فلينس المصريون الدستور ومعاركه الدون كيشوتية في المرحلة الراهنة، وينصرفوا إلى إصلاح الاقتصاد والتعليم والقانون واستئصال الفساد حتى تُرسى تقاليد انتخابية وبرلمانية لتداول الحكم؛ وبعد مائة عام يؤسسون لجنة من ستة فقهاء للدستور بدلا من طبخه ستة أشهر على يد مائة مهرج.