يوم انقلبت سوريا للمرة الأولى

TT

في مثل هذا الشهر الربيعي قبل ثلاثة وستين عاما، وتحديدا يوم الأربعاء 30 مارس (آذار) 1949 كان الصباح الدمشقي على موعد مع حدث غير مألوف. وعلى نحو رواية سمعتها من بعض إخواننا الدمشقيين الذين عايشوا تلك المرحلة فإن الذي فاجأ الناس الذاهبين إلى متاجرهم أو وظائفهم وفاجأ التلاميذ الذاهبين إلى مدارسهم صباح ذلك اليوم كان منظر الانتشار العسكري في الساحات العامة وأمام مداخل البرلمان الذي كان برلمانا بجدارة ورئاسة الحكومة التي كان من يترأسها لا يُفرض وفق إرادة الشخص الواحد في الحزب الواحد كما الحال على مدى نصف قرن لاحق. لم يألف الدمشقيون مثل هذه المظاهر العسكرية من قبل وبالذات الدوريات المتحركة من شارع إلى شارع. وكان الانطباع الأول أن هذه المظاهر ربما تتصل بمحاكمة مقدم في الجيش بتهمة علاقته بشبكة تجسس صهيونية وفضيحة مركب محمل بالأسلحة إلى سوريا كان من المفترض وصوله إلى اللاذقية لكنه لم يصل وقيل إنه غرق في مياه اليونان ثم يتبين أن المركب وصل إلى تل أبيب وبمعرفة ذلك الضابط السوري الذي كانت بدأت محاكمته.

الواقعة شبيهة بفضيحة الأسلحة الفاسدة التي أسقطت الملك فاروق في مصر وكانت حيثياتها نقطة انطلاق «حركة الضباط الأحرار» لاحقا للقيام «ثورة 23 يوليو 1952».

لم تستغرق دهشة الدمشقيين كثيرا، فبعد بضع ساعات بدأ جنود يلصقون على بعض جدران الشوارع أوراقا مطبوعا عليها نص البلاغ الأول من «القيادة العامة للجيش والقوى المسلحة» حاملا تاريخ 30 آذار 1949 متضمنا موجبات قيام الجيش بالانقلاب العسكري الذي كان الأول في مسلسل انقلابات سورية وعربية لاحقة. والموجبات هي: «مدفوعين بغيرتنا ومتألمين مما آل إليه وضع البلاد من جراء افتراءات وتعسف من يدعون حكامنا المخلصين، لجأْنا مضطرين إلى استلام زمام الحكم مؤقتا في البلاد التي تحرَّصت على المحافظة على استقلالها كل الحرص، وسنقوم بكل ما يترتب علينا تحرُّص وطننا العزيز غير طامحين باستلام الحكم، بل القصد من عملنا هو تهيئة حكم ديمقراطي صحيح يحل محل الحكم الحالي المزيف. وإننا لنرجو من الشعب الكريم أن يلجأ إلى الهدوء والسكينة، مقدِّما لنا كل المعونة والمساعدة للسماح لنا بإتمام مهمتنا التحريرية. وأن كل محاولة تخل بالأمن والتي يمكن أن تظهر من بعض العناصر الهدامة تقمع فورا دون شفقة أو رحمة».

بعد البلاغ رقم واحد صدر الثاني داعيا الشعب إلى الهدوء محذرا «كل من يتجول حاملا أسلحة مهما كان نوعها بالإعدام فورا». ثم صدر الثالث الذي يمنع التجول من السادسة مساء وحتى إشعار آخر.

وعلى نحو ما فعله جنرالات «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» في مصر بعد توليتهم إدارة شؤون البلاد بتفويض من الرئيس حسني مبارك الذي بات متهما وتحولت محاكمته إلى مهزلة، فإن القائد العام للجيش الزعيم حسني الزعيم دعا عددا من نواب البرلمان إلى مكتبه وأحاطهم بالأسباب التي حدت بالجيش إلى القيام بالانقلاب موضحا أنه سيعقد اجتماعا مع رئيس البرلمان (فارس الخوري وهو مسيحي) للتشاور معه في تشكيل حكومة جديدة. وبعد هذا الاجتماع حدد أمام عدد من الإعلاميين تم استدعاؤهم إلى وزارة الدفاع الأسباب الموجبة للانقلاب على النحو الآتي:

أولا - الهجوم المتكرر على الجيش من مجلس النواب.

ثانيا - إظهار الجيش في مختلف المناسبات بمظهر غير لائق بسمعته كجيش عربي فتي. وآخر تهمة وُجهّت إليه هي اتهام فريق من رجاله بالسارقين.. ما إلى ذلك.

ثالثا - ما لمسناه من الشعب عامة وهو عدم رضاه عن الحالة في البلاد بوضعها الحاضر. (وضرب مثلا على ذلك بعض الضباط الذين زجوهم في السجون بتهمة السرقة بيد أن التحقيق أظهر براءتهم واتضح أنهم فقط مهملون لواجباتهم الرسمية..).

وأضاف: «لقد اضطررنا لاحتجاز حرية بعض الأشخاص من الرسميين مؤقتا. أما الآن فإننا ندرس الموقف ونعمل على تشكيل حكومة بالتشاور مع رئيس مجلس النواب. وستكون هذه الحكومة دستورية وقد يكون أعضاؤها من المجلس أو من خارج المجلس كلهم أو بعضهم. على أن هذا لن يمنع الحكومة المقبلة من إجراء انتخابات جديدة تستفتى فيها الأمة لتعرب عن إرادتها إذا رأت ذلك ضروريا. إن حركتنا التي قمنا بها تحريرية، وهي حركة داخلية محض. نحن جماعة عرب مؤمنون، وإننا لنعلن بأن كل دولة، عربية كانت أم أجنبية، تفكر في الاعتداء على حدودنا، سنقاومها بقوة السلاح. كما أنه ليس هنالك أي اتصال بهذا الشأن أو غيره مع الحكومات الأجنبية، لقد نبهْنا المسؤولين إلى مغبة التشهير بالجيش والتنكيل بسمعته ولكنهم لم يستمعوا إلى نصائحنا. وأكرر أمامهم أن ما قمنا به هو عمل مؤقت وهو ليس ديكتاتوريا بأي وجه من الوجوه..».

وكان لافتا نأْي الانقلابيين عن العنف وتفادي أسلوب القمع وكذلك عدم إهانة الزعامات المدنية التي تحكم البلاد في ظل مناخ ديمقراطي وصحافة متنوعة وحياة حزبية راقية. ومن دلائل ما نشير إليه أن قائد الانقلاب حسني الزعيم كان توجه قبل اجتماعه بأصحاب الصحف والمراسلين إلى منزل رئيس البرلمان فارس الخوري برفقة القطب الدرزي الأمير عادل أرسلان وبعض النواب وتبادل معه في اجتماع مطول وجهات النظر في شأن تشكيل حكومة جديدة ثم عاد إلى مكتبه في وزارة الدفاع لمتابعة تطورات الموقف. كما أن حسني الزعيم أطْلع المجتمعين على خطوات تم اتخاذها قبل إعلان البلاغ رقم واحد ومن بينها أن قوة من الشرطة العسكرية توجهت في الثانية والنصف فجر يوم الأربعاء 30 مارس 1949 إلى منزل رئيس الجمهورية شكري القوتلي حيث جردت أفراد حرس الرئيس (وهم من الدرك) من أسلحتهم ونقلت الرئيس القوتلي في سيارة عسكرية إلى المستشفى العسكري في المزة. في الوقت نفسه اتخذت إجراءات مماثلة حول منازل رئيس الحكومة وزير الخارجية والدفاع خالد العظم، ووزير الداخلية والمعارف محسن البرازي، فضلا عن بعض كبار الموظفين من مدنيين وأمنيين. وفي المستشفى العسكري كان هنالك تعامل محترم نسبيا مع الزعامات الوافدة شبيه إلى حد ما بالتعامل الذي أراده المجلس العسكري في مصر بالنسبة إلى الرئيس حسني مبارك بعد 63 سنة من الواقعة السورية. فقد تم تخصيص خمس غرف في المستشفى العسكري للقوتلي والعظم والبرازي. وعندما طلب الرئيس القوتلي وآخرون بعض الكتب والأدوية التي يتناولونها تمت التلبية على الفور.

بالعودة إلى ما حدث بعد البلاغات العسكرية الأول والثاني والثالث، وقبل استحضار ما جرى لاحقا في حق الزعماء وبقية المتحفَّظ عليهم من مدنيين وعسكريين نشير إلى أن أربعة بلاغات أخرى صدرت وأغلق الانقلابيون بالبلاغ رقم 7 ملف إصدار البلاغات والانتقال إلى إصدار المراسيم التي بموجبها يتم ترتيب البيت الانقلابي. وفي حين كان البلاغ رقم 4 عبارة عن تحذير لأصحاب الأفران وتجار المواد الغذائية من رفْع الأسعار تحت طائلة أقصى العقوبات، فإن البلاغ رقم 5 حذَّر من «أي شائعة مغرضة يراد منها صبغ الحركة الوطنية التي قام بها الجيش بغير صبغتها الحقيقية، ذلك أن مهمة القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة في الوقت الحاضر تنحصر في تهيئة حكم ديمقراطي صحيح في البلاد ينقذها من المحنة التي مرت بها..». أما البلاغ رقم 6 فكان التأكيد من جانب القيادة الانقلابية بأنه سيتم تسليم مقاليد الحكم إلى أول حكومة دستورية يتم تشكيلها. ثم كان البلاغ رقم 7 ختام البلاغات وفيه دعوة الموظفين إلى ممارسة أعمالهم تحت إشراف أمناء الوزارات وذلك إلى أن يتم تشكيل الحكومة.

في اليوم الثاني للحركة الانقلابية تأكد الناس من هوية أقطاب الحركة، ذلك أن وسائل الإعلام بدأت ترفق اسم قائد الجيش بالآتي: «سعادة القائد الزعيم حسني بك الزعيم». كما أن الوسائل كانت تنشر أن «جناب المقدم بهيج بك الكلاس» يستقبل الوفود الطلابية والشبابية كما استقبل الملحق العسكري الأميركي ونظيره البريطاني. وردا على الإشاعات بأن الحركة الانقلابية تفتقد إلى الشعبية فإن حسني الزعيم طلب وضع الرئيس شكري القوتلي ورئيس الحكومة خالد العظم في سيارة مصفحة مقفلة طافت بهما ثالث يوم الانقلاب (الجمعة أول أبريل /نيسان 1949) الشوارع الرئيسية في العاصمة وشاهدا المظاهرات المؤيدة التي خرجت من المسجد الأموي بعد صلاة الجمعة. وفي نطاق توظيف الوضع الانقلابي أطْلع حسني الزعيم أصحاب الصحف ووسائل الإعلام على استقالتين كتبتا بخط اليد لكل من رئيس الجمهورية (مؤرخة 6 أبريل) ورئيس الحكومة (7 أبريل). ما كتبه الرئيس القوتلي كان على النحو الآتي: «أُقدِّم للشعب السوري الكريم استقالتي من رئاسة الجمهورية راجيا له العزة والمجد». وما كتبه خالد العظم كان على النحو الآتي: «أُعلن استقالتي من رئاسة الحكومة السورية».

وفي الوقت الذي بدأ قادة الانقلاب ينشطون عربيا ودوليا لتثبيت سلطتهم كانت هموم الداخل ما تزال تؤرق بال حسني الزعيم الذي كان لافتا قوله يوم الاثنين 11 أبريل ردا على سؤال وجّهه إليه أحد الصحافيين «لقد أصدرت الأوامر المشددة إلى الجهات المختصة بمنع الاتجار بالرقيق في منطقة اللاذقية، وحظّرْتُ القيام بذلك تحت طائلة العقوبة بعد المحاكمة. كما أننا نعمل الآن لإجراء تنظيم اجتماعي في سوريا يتناول توحيد الأزياء ومنْع العقال والكوفية والشروال الخ.. بغية النهوض بالبلاد نهضة اجتماعية تتفق مع البلاد المتمدنة من هذه الوجهة. أما أهل القرى فإنهم بحاجة إلى تنظيم فني وصحي وجمْع كل أربع قرى بقرية واحدة نموذجية..».

ما جرى لاحقا وبالذات ما يتعلق ببناء سوريا المنقلبة للمرة الأولى نتابعه في مقالة لاحقة.