الله خير الماكرين

TT

هذه حادثة لا بد أن أرويها كنوع من الاعتذار، وهي واحدة من اعترافاتي التي أظن أن أيام عمري ستنتهي قبل أن تنتهي اعترافاتي الصريحة والمخجلة.

فقبل عقدين من الزمن استدعاني أحدهم لأشهد له، والحق يقال إنها شهادة (زور) لقاء مبلغ مادي، والواقع وقتها أن (أذني ارتخت) - أي أنني طمعت - فوافقته على ذلك، وفي اليوم التالي ذهبت معه للمحكمة، وما إن دلفنا للصالة الكبيرة في مدخل الطابق الأرضي حتى شاهدنا المصعد المزدحم وهو على وشك الإغلاق، حتى انطلقت أنا سريعا كالغزال الشارد ووقفت حائلا عن إغلاقه حتى وصل رفيقي الذي يزيد وزنه على مائة كيلو، حاول الجميع منعنا من الدخول على أساس أن طاقته الاستيعابية لا تحتمل المزيد، غير أنني زاحمتهم و(دفشتهم) بكل ما أعطاني الله من قوة وأصبحنا جميعا متلاصقين كسمك الساردين في علبة صغيرة، عندها أغلق الباب وانطلقنا، وما إن وصل المصعد إلى ما بين الطابق الثاني والثالث حتى توقف، واكتشفنا (يا للهول) أن التليفون مقطعة أسلاكه والمروحة معطلة، وعددنا أحد عشر شخصا محجوزون في مصعد فولاذي يشبه الصندوق التجوري.

وبدأ الصياح وكنت أنا أول الصائحين قائلا بأعلى صوتي: (HELP، HELP)، متأثرا ببعض الأفلام السينمائية، وأخذت أيادي الجميع تخبط على الباب، والعرق يتساقط، و(الأكسجين) ينفد، وما راعني إلا شيخ معنا أخذ يتلو علينا الشهادة مرددا: كل نفس ذائقة الموت، حتى لو كنتم في بروج مشيدة، وراعني أكثر أن أحدهم وضع في فمه سيجارة وقبل أن يشعلها خطفتها من فمه ودستها تحت قدمي، فما كان منه إلا أن يوجه لي ملطاما على أنفي، وبينما كنا في (هرج ومرج)، ونسمع الآخرين من خلف الباب يطمئنوننا ويشجعوننا ثم يذهبون، وإذا بالمؤذن يتناهى لنا صوته بأذان الظهر، وإذا بالأصوات تخفت رويدا رويدا، ثم ران علينا صمت رهيب، وحسبت أنا بيني وبين نفسي أن مدة الصلاة سوف تكون في حدود نصف ساعة ومعنى ذلك أننا سوف (نفطس) قبل أن تنتهي الصلاة، فقلت لا شعوريا متحسرا: (جاك الموت يا تارك الصلاة)، عندها تذكرت فورا شهادة (الزور) التي أتيت من أجلها، وأخذت أستغفر ربي بحرارة، وبعدها التفت وتوجهت بأقذع الشتائم للرجل الذي أغراني ولعب بعقلي، وكان هو طوال الوقت صامتا، ويسمع شتائمي ولا يرد عليها، وعقدت العزم لو أن الله أنجاني سوف أتوب عن كل المعاصي.

ومن حسن الحظ أن أحد السامعين بالخارج كان ذكيا واستطاع أن يصل إلى مهندس المصاعد قبل أن يكبر هو مع المكبرين للصلاة، وأتى ونحن في (الرمق الأخير)، وتحرك المصعد وأفتح الباب، ولا أنسى منظر ذلك الشيخ الذي يتلو علينا الشهادة وهو يندفع للخروج وقد سقط (مشلحه) من دون أن يفطن وداسته الأقدام، وبدلا من أن أصعد أنا بالدرج للدور الرابع أخذت أهرول للطابق السفلي، وما إن خرجت للشارع حتى وسوس الشيطان، لعنه الله، برأسي ورجعت سريعا وأدليت بشهادتي، وكأن شيئا لم يكن.

لا أريد أن أطيل عليكم، فالخلاصة: أن ذلك الرجل (النذل) عديم الذمة، حنث بوعده ولم يدفع لي ما اتفقنا عليه، مستغلا شتائمي التي وجهتها له في المصعد، معتبرا أنني أهنته أمام الجميع ببذاءة لساني.

ورجعت إلى بيتي أجر أذيال الخيبة متذكرا قوله تعالى:

«وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا».

وصدق الله العظيم عندما قال في محكم كتابه: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».

[email protected]