الاستمرارية والربيع العربي

TT

قانون الاستمرارية من أهم القوانين الفيزيائية التي تسري على الطبيعة. فالكرة تدخل في الهدف مندفعة بقوة الاستمرارية من ضربة اللاعب المهاجم. والقمر يدور حول الأرض من يوم ما انخلع عن الكرة الأرضية ودار حولها، وبقي يدور كل هذه البلايين من القرون. والكرة الأرضية تدور حول الشمس منذ ذلك الانفجار الكوني الذي حصل قبل آلاف التريليونات من السنين عندما لم تكن هناك أي سنين أو أي زمن، وبقيت تدور حول الشمس بقوة الاستمرارية. وعندما يضرب شرطي مواطنا بريئا يكسر عظام صدره بقوة استمرارية الضربة. فهذا قانون مهم بالنسبة للمسؤولين، فلولا قانون الاستمرارية لما استطاعت الشرطة أن تعذب السجناء.

ما يغيب عن الانتباه أن الكثير من قوانين الفيزياء والكيمياء تنطبق على سلوك المجتمع أيضا. فالأنظمة القائمة تواصل الحكم بفعل الاستمرارية. انتبه لهذه الظاهرة فلاديمير لينين، مؤسس الدولة السوفياتية. قال «صحيح أسقطنا النظام الرأسمالي، لكن القيم والأساليب الرأسمالية ستواصل عملها وتأثيرها بفعل الاستمرارية».

وهذا ما لم التفت إليه الزميل حسن عبد ربه المصري، الزميل الصحافي من مصر، في محاضرته التي ألقاها في نادي حديث الأمة في لندن قبل أيام عن الإعلام والانتخابات. نعى الزميل سذاجة وتقصير الإعلاميين في بلاده في تناول شخصيات العهد الإخواني الجديد ومحاسبتهم وانتقادهم. لاحظ أن ذلك انطبق بصورة خاصة على العاملين في الفضائيات المستقلة غير الرسمية. وجدهم يتخوفون ويجاملون المسؤولين وساسة العهد الإسلاموي الجديد. قال إنه سيترتب على ذلك بقاء الفضائح والتجاوزات في طي الكتمان، تماما كما كان الأمر في عهد حسني مبارك.

هذا في الواقع ما نتوقعه وما أشرت إليه أعلاه. إنه قانون الاستمرارية.. هكذا كان آباؤنا، وإنا على خطاهم لسائرون. الخوف أن ما يشكو منه حسن عبد ربه في حقل الإعلام سينطبق عاجلا أم آجلا في ميادين الإدارة والمال، أو ما أعنيه بالضبط ميادين الفساد. يستمر الفساد بفعل قانون الاستمرارية. هذه في الواقع المحنة التي ستواجهها كل الأنظمة التي تمخضت عن الربيع العربي، وقبله نظام ما بعد صدام حسين في العراق. سرعان ما سيكتشف المواطنون أن كل شيء هو كما كان هو. السرقات نفس السرقات، والرشاوى نفس الرشاوى، والتهريبات نفس التهريبات، وقمع الفكر وقطع اللسان والفتك بالمعارضين هو هو. والذنب ليس ذنب الحكام الجدد.. كلا إنه قانون الاستمرارية.

بيد أن هناك فرقا واحدا.. فقانون الاستمرارية يقضي بأن استمرارية الحركة تفقد حركيتها تدريجيا بفعل المقاومة، فتدحرج الكرة يفتر تدريجيا حتى تتوقف بعد عدة أمتار. لاحظت أن هذا لا ينطبق على السياسة العربية.. فبدلا من أن نرى عيوب الأمس تختفي تدريجيا فإننا نراها تتعاظم من عهد لعهد. فالموظفون الحرامية في العهد الملكي في العراق كانوا يكتفون بعشرة دنانير. ارتفع الرقم إلى الآلاف في عهد صدام، والآن تجاوز الملايين في العهد الحالي. لم ذلك؟ استمرار الحركة في الفيزياء يتوقف بالمقاومة، مقاومة الهواء وجاذبية الأرض. لكن لا توجد مقاومة في عالمنا العربي لتوقف الفساد.. فيستمر. هذا هو الفرق.