دبي تزداد «تسطيحا»!

TT

منذ وصولي إلى مدينة دبي حتى دخولي إلى غرفتي بالفندق تعمدت أن أحسب عدد جنسيات من تعرض إليّ بالخدمة والعون، فاكتشفت أنها تصل إلى 27 جنسية كلهم يتحدثون لغة واحدة ويقدمون ثقافة واحدة، وهي خدمة الضيف أولا، مساهمين بشكل فعال في تأكيد هوية دبي «المعولمة» وانتمائها لمجموعة ضيقة وصغيرة من المدن العالمية التي بمجرد الوصول إليها تسقط هوية الضيف ليندمج في قالب عالمي موحد عابر للثقافات والقارات والهويات، إنها بوتقة إنسانية بامتياز، تشترك مع دبي في هذا سنغافورة وفانكوفر وهونغ كونغ ولندن وسيدني على سبيل المثال.

وبينما يكثر الحديث في العالم اليوم عن أثر «الثورات» على العالم العربي، نشاهد على الطبيعة وبشكل أخاذ ومدهش الأثر الهائل لـ«نوع آخر» من الثورات على إمارة دبي، فهذه المدينة استفادت جدا من ثورة المعلومات وثورة الاتصالات وثورة العولمة لتزيل أرتال البيروقراطية والقيود والروتين وتقلل من حواجز وموانع الاستثمار والتجارة والتطوير لتقصر المسافة بين النقطتين «أ» الفكرة و«ب» التنفيذ.

وكل من زار دبي أو استمع عن إنجازاتها يدرك تماما ما هو المقصود من ذلك، فهذه «الثورات» التي كانت بمثابة نقلة ثقافية وفكرية كانت فرصة سانحة وحقيقية لتحقيق التغيير لتأمين الاستقرار، ففي كثير من الأحيان هناك من يدرك ويفطن أن السر في الاستقرار هو القدرة على حسن إدارة التغيير قبل أن يفرض عليك، وذلك بأن يتم هذا كله بأدوات ووسائل متاحة وموجودة يتم توجيهها لما فيه الصالح العام والخير الواسع، كل ذلك حوّل دبي إلى إحدى أهم المناطق حول العالم التي يشار إليها باحتلالها مراكز متقدمة جدا في التصنيفات العالمية لـ«جودة الحياة»، وهي معايير تحتوي على محاسبة ومسؤولية ومكاشفة ومساواة وعدالة للكل بحيث يحاسب كل من أخطأ ويكافأ من أحسن.

وهو الذي جعل أجمل وصف لدبي على لسان أحد أصدقائي المهووسين بالتقنية الحديثة، وهو أن دبي أكثر مدينة USER-FRINENDLY، فهي مدينة تحترم من يتعامل معها وبالتالي تسهل عليه تجربة زيارتها أو الإقامة أو العمل فيها. وهنا أتذكر مقولة الفنان سعيد صالح الشهيرة في دور «مرسي الزناتي» في مسرحية «مدرسة المشاغبين»، حينما قال واصفا بيروت السبعينات عندما زارها مقارنة بمصر وقتها «المقررات هناك سهلة مش معقدة زي اللي عندنا»!

ويبدو أن هناك حالة من التوصيف الثقافي السياسي حينما يتم شرح حالة دبي وبعض المدن الخليجية الأخرى أشبه بما وصفه وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، حينما وصف أوروبا بأن «هناك أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة»، ويبدو ذلك صحيحا إلى حد كبير بأن هناك عربا جديدة وعربا قديمة!

وهنا أستحضر موقفا حدث لمستثمر خليجي كبير كان في ندوة اقتصادية في مصر والمتحدث الرسمي فيها رئيس الوزراء المصري الأسبق الدكتور عاطف عبيد وكان وقتها يقدم شرحا تفصيليا عن السوق المصرية وما عملته الحكومة المصرية من تسهيلات وامتيازات للمستثمرين الأجانب (مع العلم أن عاطف عبيد نفسه كان مشهودا له بأن حقبته كانت الأكثر تعقيدا في سنوات حسني مبارك)، فسأله المستثمر الخليجي: يا رئيس الوزراء، إن ما تقدمه دولتكم من تسهيلات هو أقل بكثير مما يقدم من تسهيلات من قبل حكومة دبي على سبيل المثال، فلماذا هذا الفرق؟ وبدلا من أن يجيب رئيس الوزراء المصري على «الجانب التقني» المحدد في سؤال المستثمر انتفض غاضبا وعلا صوته بشكل واضح وكأنه قرص من دبور، وقال: أنت جاد أم تمزح؟! كيف تقارن دولة بحجم وتاريخ مصر بمدينة صغيرة مثل دبي هي أشبه بحي من أحياء محافظاتها؟! وطبعا لا داعي للتعليق الإضافي، فالرجل المستثمر السائل لم يكن بصدد «المقارنة الحضارية» بين المكانين بقدر ما كان ينشد تسهيل فرص الاستثمار لا أكثر. وهو جدل عقيم آخر يذكرني بحوار مع مسؤول حكومي كبير في إحدى الدول العربية استمع لسرد طويل عما أنجزته دبي من تحقيق عملي للحوكمة الرشيدة وتسهيل مناخ الاستثمار والعمل، وتطوير جاد في البنى التحتية وإنجازات مهمة لخطط التنمية البشرية وتحسين مناخ الحياة والعمل للمواطن والمقيم فيها، فما كان منه إلا أن قال: «ولكن هل تعلم أنهم معظمهم من أصول هندية؟». فما كان من صديقي المتحدث إلا أن قال للمسؤول الكبير: «أتمنى أن تكون على علم أنك بذلك تمدحهم ولا تذمهم، فالهند كانت وستظل إحدى أهم دول العالم»!

دبي تثبت أنها كمثال عملي مساهم فعلي في أن العالم يزداد «تسطيحا»، وأن العولمة حولت مواقع كثيرة حول العالم إلى عالم مسطح الكل فيه سواسية ويتحدثون بـ«لغة وعلم واحد»، بينما هناك أماكن أخرى حول العالم الحديث يزداد فيها المرء «تسطيحا»، ولكن من الضحك!