الباهر

TT

وقد بهرهم النيل: أي نبع في الأرض يمكن أن يدفق كل هذا المد من المياه، على مدى كل هذه المسافات، ويسقي في طريقه خصوبة الأرض في كل هذه الأمم؟ أم إن له أكثر من منبع؟ أم مجموعة شلالات وروافد تتجمع من أجله وتلحق به، بدل أن تضيع هنا وهناك، غائرة في الأرض أو طافية على شكل بحيرات صغيرة؟

القرن التاسع عشر كان عصر الأحلام الجغرافية.. دق المستكشفون أبواب الصحراء ومنابع النيل، وعندما وصلوا إلى زنجبار وبحيرة تانجانيقا، اكتشفوا أن تجار الرق العرب قد سبقوهم إلى هناك. بعضهم بدأ حملة لوقف هذا الجور البشري، وبعضهم أكمل طريقه، مع قافلة من نحو 200 أفريقي، يموت نصفهم خلال الرحلة، مرضا أو تعبا أو قتلا..

وبعضهم تزوج ابنة زعيم القبيلة أو أهديت له مع مجموعة أخرى من النساء. وربما من هنا خطرت الفكرة للنائب التونسي الذي طالب أخيرا بجارية إلى جانب كل زوجة.

كان أشهرهم ريتشارد بورتون وديفيد ليفنغستون. تشاجر بورتون مع رفيقه جون سبيك وعاد إلى لندن ليذهب من هناك إلى الجزيرة العربية ثم يصبح قنصلا في دمشق.. يجيد العربية ويكتبها وعنها نقل «ألف ليلة وليلة». ومعظم الذين جاءوا الجزيرة تعلموا العربية أو أتقنوها. واتخذوا لأنفسهم أسماء عربية أيضا. أما في أدغال النيل الجميلة، فاتخذوا لأنفسهم مترجمين، يجيدون الكلمات القليلة التي يحتاجون إليها للتعامل مع الرجال الذين يقطعون بهم المسافات الوعرة، محمولين على محفة.

لم تكن الرحلة متعة كلها.. كان يدركهم المرض فيعودون، كما فعل بورتون. أما سبيك الذي عرف أن المنبع هو بحيرة نيانزا (فيكتوريا) عام 1858، فقد قتل نفسه خطأ وهو يصطاد رفا من الحجال. وشارك آخرون في تجارة الرق التي كانت تقوم على مقايضة العبيد بالأقمشة المصنوعة في أميركا.

كان لكل مستكشف الجمعية والجريدة التي تتبناه في لندن. وقد امتلأت الصحف بالأخبار والحكايات والانطباعات المثيرة. وتهامست المدينة طويلا عن زواج سبيك من بنات كاباكا موتيسا في أوغندا: رجل أبيض وزوجتان.. أو بالأحرى، زوجة وأخرى جارية، وفق المطلب التونسي الثوري الحديث.

كان اليونانيون والرومان قد أرسلوا من قبل بعثات لاكتشاف أصول النيل، لكنها كانت تتوقف في ما هو الآن جنوب السودان، حيث تصدها سدود هائلة من المستنقعات والنباتات المتشابكة المخيفة الأحجام. وأما حظي من اكتشافات النيل، فلم يتعد نسماته في ربيع القاهرة، ومشهدا لا ينسى في «الغابة» قرب الخرطوم حيث يلتقي النيل الأزرق بالنيل الأبيض على موعد شبه أبدي.. وربما هنا، كما في بحيرة فيكتوريا، يبدو النهر في أبهى عظمته.. وما خطر لأحد أن يسميه «النهر العظيم».