هل هذا قابل للصفح؟

TT

بين 1976 و1983 حكمت طغمة من العسكريين أحد أجمل بلدان العالم، الأرجنتين. فتحت، كالعادة، أفواه المقابر الجماعية، ورفعت، كالعادة، شعارات يضعها الكتبة الخالون من الموهبة: «إعادة التنظيم الوطني». خلال تلك الفترة اختفى نحو 30 ألف شخص، معظمهم من الطلاب، في حرب الزمرة على «الإرهابيين المخربين». في حرب الفولكلاند مع بريطانيا عام 1983، ألحقت الهزيمة بأسوأ حكم عرفته بيونس آيرس، فأخلى العسكريون السلطة، ودخل قادتهم السجن، وبدأت المطالبة بالتحقيق في جرائمهم التي طالت معظم العائلات. لكن عام 1990 أعلن الرئيس كارلوس منعم العفو العام وأطلق سراح العسكريين. وبدأت مأساة أخرى: البحث عن هويات أبناء الذين قتلت أمهاتهم في المعسكرات وهن حوامل.

جيل كامل يبحث عنه جدوده وجداته «البيولوجيون» الذين لا يعرف عنهم شيئا، وغالبا لا يريد العودة إليهم، بل البقاء مع الآباء الذين لم يعرف سواهم. لكن حكومة الرئيسة فرنانديز كشنر أمرت بحملة للبحث عن العلاقة بالأهل «البيولوجيين» من خلال الحمض النووي. والذين رفضوا الخضوع لفحص الدم أمروا بإعطاء أي شيء من أغراضهم الخاصة: فرشاة أسنان أو حقيبة أدوات الرياضة.

نشر العسكريون المآسي في كل البلاد. دمروا حياة آباء وأمهات المفقودين ثم دمروا حياة أبنائهم. وإلى اليوم لم تتصالح الأرجنتين مع نفسها ولا مع ماضيها. وقد أصيب كثير من الجلادين بالجنون وماتوا في المصحات العقلية، وهم يستمعون إلى شهادات يومية على التلفزيون عما حدث.

وفي التشيلي المجاورة ترك أغوستو بينوشيه وطغمته سلسلة طويلة من الجراح. هو أيضا أراد أن يحمي «القيم المسيحية» من «المخربين الإرهابيين»، فكان أن خطف وقتل وأخفى آلاف الشبان والشابات. ولم تحل أي مأساة عائلية عندما أوقف أحد أكبر جزاري القرن الماضي في لندن، ولكن البعض وجد عزاء في رؤيته مطاردا ومذلا.

هل أنت مع الصفح من أجل أن تبدأ البلدان حياة جديدة؟ أنا مع العدل. ليس من قانون أو شعور أو قلب يمكن أن يصفح عن قاتل 30 ألف إنسان. أو عن الجنرال الذي كان يخطف الحوامل ومتى وضعن، جمعهن في طائرة ورماهن في الجزء الأرجنتيني من المحيط الأطلسي. لا يمكن أن تمر الجرائم الجماعية من دون عقاب تاريخي يستمر إلى ما بعد الحياة. الجلادون الكبار والجلادون الصغار على السواء. «تنفيذ الأوامر» ليس ذريعة مقبولة. والوحشية ليست القانون.

لقد أدرجت الأنظمة العسكرية في كل العالم ثقافة القتل الجماعي، تحت عناوين وذرائع مختلفة، جميعها سمجة وفارغة، وليس فيها سوى العذاب والموت. وبعد 20 عاما من الصفح الذي أصدره كارلوس منعم، لا تزال الأرجنتين تكتشف مأساة أخرى كل يوم.