مسرح محتقن.. وشعب تائه

TT

كانت مصر في الشهور الأخيرة من عام 1981 تعيش مرحلة مليئة بالقلق والتوتر والاحتقان. كانت شبه معزولة عن عالمها العربي بعد أن أبرمت مصر معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل وقطعت الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع مصر، ولم يبقِ على العلاقات معها إلا السودان وسلطنة عمان، ونقلت الجامعة العربية من مقرها الأصلي على نيل القاهرة إلى تونس.

كانت مصر تعيش فترة لم ترَ مثلها من قبل في تاريخها الحديث. وسافر الرئيس السادات إلى الولايات المتحدة الأميركية لعله يجد عندها بعض العون على ما يواجهه من مشكلات في الداخل والخارج، ولكنه عاد خاوي الوفاض، ما زاد من التوتر والاحتقان وزاد من خيبة أمل المصريين في ما بشروا به من آمال سوف يحملها لهم السلام.

وأحس السادات أن أميركا انصرفت عنه وأن العرب قاطعوه وأن الداخل في مصر يموج بالغليان والاحتقان. ووسط هذا الاحتقان الشديد أعلن الرئيس السادات العمل بالمادة 74 من دستور 1971، وهي مادة تعطي لرئيس الجمهورية سلطات واسعة لمواجهة ما قد تتعرض له البلاد من خطر داهم. ولم يكن هناك في الحقيقة خطر داهم يستوجب إعلان العمل بهذه المادة، ولكنه التوتر الذي كانت تعيش فيه مصر ويعيش فيه الرئيس السادات. وفي ظل هذه المادة البغيضة اتخذ السادات مجموعة من القرارات نزلت على مصر نزول الصاعقة. واستنادا إلى هذه المادة أصدر السادات قرارا باعتقال ما يقرب من ألفين من المصريين من كل التيارات السياسية - يسارا ويمينا شيوعيين وإخوان مسلمين - ومن أجيال مختلفة، منهم من بلغ الثمانين عاما ومنهم من لم يجاوز العشرين إلا بقليل، ومنهم من هو بين ذلك. واتخذ السادات قرارا غريبا بسحب القرار الجمهوري بتنصيب البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة القبطية المصرية. وفصل عددا من أساتذة الجامعات، وعددا أكبر من الصحافيين. وأغلق مجلات يسارية ومجلات إسلامية.

وأصبحت مصر وكأنها في مأتم كبير. كان ذلك في أوائل سبتمبر (أيلول) عام 1981.

وفي 6 أكتوبر (تشرين الأول) - بعد شهر تقريبا - كان السادات يحتفل بعيد النصر، ويشاء القدر أن يتلقى في ذلك اليوم رصاصات قاتلة يطلقها عليه أحد الجنود الذين كانوا يشاركون في العرض العسكري في احتفالات يوم النصر.

وزاد القلق وزاد التوتر. وكان السادات قد عيّن نائبا له هو محمد حسني مبارك، وكان قرار تعيين مبارك هو أيضا من مفاجآت الرئيس السادات غير المتوقعة. وأغلب الظن أنه لم يكن ينتوي أن يستمر مبارك في هذا المنصب وكان راغبا في تغييره بآخر أكثر إقناعا للناس، ولكن تقدرون وتضحك الأقدار.

قتل السادات وتولى رئيس مجلس الشعب سلطات رئيس الجمهورية مؤقتا وفق نص الدستور، وأجريت انتخابات الرئيس الجديد في 14 أكتوبر 1981.

وأصبح مبارك رئيسا لجمهورية مصر!! وكان فؤاد محيي الدين هو رئيس مجلس الوزراء ومعه حسن أبو باشا وزيرا للداخلية، وكان أسامة الباز هو مستشار الرئيس والأقرب إليه.

كان فؤاد محيي الدين سياسيا حتى النخاع. عمل مع عبد الناصر وعمل مع السادات، وها هو ذا يقود السفينة في أيام مبارك الأولى.

وكان حسن أبو باشا من أفضل من أنجبتهم مباحث أمن الدولة. كان خبيرا بالاتجاهات السياسية الموجودة في الشارع المصري، بما في ذلك اتجاهات اليسار بعامة والشيوعيين بخاصة، كما كان خبيرا بالإخوان المسلمين وتنظيماتهم، وكان يعاون حسن أبو باشا مدير لمكتبه وواحد من ألمع ضباط الداخلية، هو اللواء محمد تعلب، الذي كان قريبا من حسن أبو باشا ومحلا لثقته. وكانت هذه المجموعة تدرك أن المهمة الأولى والأساسية أمام الرئيس الجديد هي محاولة تخفيف التوتر والاحتقان الذي كان سائدا في كل ربوع مصر.

وكانت علاقتي بكثير من المعتقلين من التيارين الأساسين - اليمين واليسار – طيبة، وكنت أحضر التحقيقات التي يجريها مكتب المدعي العام الاشتراكي معهم.

ولن أستطيع هنا أن أتذكر كل أسماء الذين حضرت معهم. حضرت مع أستاذنا فتحي رضوان، وحضرت مع الصديق العزيز محمد فايق، وحضرت مع عبد الرحمن الأبنودي، ومع الزميل والصديق عادل عيد، وعشرات آخرين من أشرف وأخلص أبناء هذا البلد.

ولست أذكر الآن ما هي مناسبة أول لقاء لي مع حسني مبارك رئيس الجمهورية الجديد – الذي كنت أعرفه بطبيعة الحال منذ عين نائبا للرئيس – ولكن الذي أذكره في هذه المقابلة أن الرجل كان بسيطا وكان لا يخفي هيبته للمنصب، وأنه أخرج سيجارا ليشعله وقدم لي سيجارا آخر.

وأذكر أنني قلت له أريد سيجارا آخر فأبدى استغرابا، فقلت له مبتسما إنني أريده لصديقي إسماعيل صبري المعتقل منذ سبتمبر الماضي، فإذا به يقول، وما زلت أذكر عباراته: «يعني فاكرني بخاف؟ خد يا سيدي سيجار لصاحبك إسماعيل صبري». ولم آخذ السيجار بطبيعة الحال.

وسألني عن أمور قانونية لست أذكرها الآن، ثم تحدثنا عن المعتقلين وعن الأحوال العامة في البلد، وأتصور أنني أحسست أنه يفكر جديا في كيفية تخفيف الاحتقان السائد في مصر آنذاك.

وأصدر مبارك قرارا استقبله الناس جميعا بقبول حسن وبترحيب. كان القرار هو الإفراج عن عدد كبير من المعتقلين السياسيين، من بينهم فؤاد سراج الدين ومحمد حسنين هيكل وفتحي رضوان وعدد آخر غير قليل، وخرج هؤلاء من حيث كانوا معتقلين، وحملتهم سيارات إلى مقر رئاسة الجمهورية حيث استقبلهم الرئيس الجديد حسني مبارك وأدار معهم حديثا لا يخلو من مودة وما يشبه الاعتذار.

كانت ضربة معلم فعلا، وكان وراءها بالقطع تلك المجموعة من الرجال الذين أشرت إليهم والذين كانوا يحيطون بحسني مبارك وكانوا يدركون ما يسود في البلد من احتقان وتوتر يوشك أن يعصف بكل شيء، وكانوا يدركون أيضا أن الإفراج عن عدد من كبار المعتقلين السياسيين سيخفف من ذلك التوتر والاحتقان كثيرا. وهذا هو ما كان.