السوريون والقمة العربية!

TT

لم يخطئ السوريون في لا مبالاتهم وعدم اكتراثهم بمؤتمر قمة بغداد العربية وفي عزوفهم عن الاهتمام بقراراته أو التعويل عليه، وقد أصابوا بتقديراتهم بأن هذا المؤتمر لن يحمل لهم جديدا في ما يضمن حمايتهم وصون أرواحهم من آلة الفتك والدمار وبأنه لن يعود بأثر إيجابي على معالجة أوضاعهم المتفاقمة.

وبالفعل، صح ما كنت تسمعه من كلمات مفعمة بالأسى بأن سقف هذا المؤتمر لن يتجاوز الإدانة والشجب للنظام الحاكم وحتى تحميله المسؤولية دون اتخاذ قرار من القمة في مواجهة ذلك، اللهم إلا بعض عبارات التعاطف مع الضحايا والمنكوبين والدعوة إلى تفعيل المساعدات العربية لتخفيف معاناة الشعب السوري، فالعرب كما يرى بعض السوريين قد أعطوا ما عندهم، وحرروا أنفسهم من المسؤولية بعد نقل الملف السوري إلى مجلس الأمن، الذي، بسبب الفيتو الروسي، عجز عن اتخاذ موقف يحمي المدنيين ويدين القمع المعمم والعنف المفرط، ولا يغير من هذه النتيجة تلويح الوزراء العرب ببعض الضغوط ضد موسكو أو محاولتهم تليين الموقف الروسي عبر لقاء القاهرة المتعثر مع وزير الخارجية لافروف، بل يتخوفون من تراجع الموقف العربي وارتباكه استنادا إلى حقيقة أن أية قمة عربية تأخذ طعمها من الطرف المضيف وطبيعة مواقفه وجهة اصطفافه، ليرجحوا صعوبة أن تتخذ قمة بغداد مواقف جديدة حادة وحاسمة من النظام السوري، إرضاء لإيران وتحسبا من ردود فعل مضرة بالحكومة العراقية في ظل الظروف الحرجة التي تمر بها، وهو الأمر الذي دل عليه قرارها بدعم خطة كوفي أنان لمعالجة الحالة السورية التي شكلت تراجعا عن بعض النقاط التي أدرجتها المبادرة العربية!

من جهة ثانية، أصاب السوريون الذين جاهروا بموقفهم حين لم يعولوا أبدا على القمة العربية، والسبب ليس في طابعها، بل في طبيعة السلطة الحاكمة في سوريا التي دأبت على إهمال العامل العربي، وصل الأمر أحيانا إلى حد شطبه من حساباتها، ربما لأنها بعلاقاتها الإقليمية، وخاصة مع الحليفة إيران، استطاعت جعل التأثيرات العربية في شؤونها الاقتصادية والسياسية ضعيفة ومحدودة، وربما لأنها في أساس بنيتها الأمنية تتعارض مع النصائح العربية الداعية للبدء بمعالجة سياسية للأزمة وبإصلاحات جدية تخفف حدة التوتر والاحتقان! مما يعني برأي هؤلاء أن أهل الحكم سوف يستمرون في سلوكهم القمعي وسيواجهون الاحتجاجات كأنهم يتمتعون بحصانة دائمة تجاه استخدام أشنع وسائل القهر والتنكيل، وكأنهم لا يأبهون بالمواقف العربية وبما قد تتخذه القمة من قرارات، وهو ما عبروا عنه برفضهم أية قرارات تتخذها القمة تجاه الحالة السورية ما داموا غائبين عنها!

وربما هو أمر مفسر ومفهوم في ظل معاناة الشعب وما يكابده، أن يذهب بعض السوريين إلى حد السخرية من القمة ويجاهرون بانتقاداتهم للنظام العربي الرسمي الضعيف، وخاصة تأخره وتباطؤه في التعاطي مع الحالة السورية بالمقارنة مع مواقفه السريعة والصريحة تجاه الثورات الأخرى، مما منح المهل تلو المهل للآلة السلطوية كي تتوغل أكثر في القمع والعنف، وقد أصاب هؤلاء في استنتاجهم بأن انعقاد القمة وأيا تكن قراراتها لن يقدم شيئا في تعديل الدور العربي وتمكينه من مواجهة التحديات التي تعترضه، وأهمها تحدي وقف العنف وحماية المدنيين السوريين، وأن القادة العرب سوف يكتفون بمعالجة هذه القضية الملتهبة والمؤلمة معالجة شكلية، أشبه برفع العتب، والدليل تهربهم من هذه المسؤولية ووضعها على عاتق الموفد الأممي ومبادرته!

في المقابل، لا يخلو المشهد السوري من آراء لا تزال تنظر بإيجابية لدور عربي في التعاطي مع محنتهم، على الرغم من النتائج الهزيلة التي أسفرت عن مؤتمر قمة بغداد، ويستند هؤلاء إلى بعض الإشارات والمعطيات الدالة على تنامي الرغبة لدى أطراف عربية في معالجة سريعة للاستعصاء السوري القائم حتى لو تطلب الأمر تدخلا خارجيا أكثر وضوحا وقوة، والدليل الإصرار على تكرار وضع الملف السوري في عهدة مجلس الأمن ثم الدعوات المتواترة لإنشاء قوة مشتركة، عربية وأممية، للفصل والمراقبة، بما في ذلك الجهود اللافتة لعقد مؤتمر أصدقاء الشعب السوري في تونس والسعي العربي لإنجاحه في إسطنبول لجهة تطوير مواقف دولية وإقليمية أكثر فاعلية تكسر هذا الاستعصاء.

فحين تعلن دول عربية إدانة الخيار الأمني والعسكري وتدعو إلى وقف العنف فورا والاستجابة لمطالب الناس، وترفض الروايات الرسمية عن المؤامرة والعصابات المسلحة، وتضع مبادرة غير مسبوقة لحل الأزمة تدعمها ببعثة مراقبين مهمتها التحقق من التنفيذ، ثم تعلن تطبيق حزمة من العقوبات الاقتصادية المؤثرة ضد النظام السوري وتعلق عضويته في الجامعة العربية، وتبادر إلى سحب سفرائها ثم قطع العلاقات الدبلوماسية، كما تسارع إلى نقل الملف السوري إلى مجلس الأمن، وبعد عجز هذا الأخير، تلجأ إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وتساهم في إصدار قرار يدين العنف السلطوي، ثم تهتم بمتابعة الشأن السوري في لجنة حقوق الإنسان وفي محكمة الجنايات الدولية، وتقدم ما تيسر من الدعم السياسي والمادي للثوار واللاجئين، حين يحصل كل ذلك يعني عند السوريين، وجود مصلحة عربية واسعة بضرورة التغيير السريع في بلادهم وتوافقا على رفض بقاء المشهد على هذه الشاكلة، حتى لو جاء الأمر تفاديا لتداعياته وآثاره التي بدأت تنعكس في مختلف الأوساط السياسية والشعبية العربية، وتحسبا من أن تفضي ارتباطاته الإقليمية إلى مستوى أكثر خطرا على أمن الدول العربية ومصالحها.

وفي كل الأحوال وحتى وإن لم يخلص مؤتمر القمة إلى تفعيل الدور العربي وتمكينه، وإن لم ينجح في تثبيت المبادرة العربية تجاه الحالة السورية ورفدها بخطة وآليات وبقوى قادرة على وضعها موضع التطبيق، فإن السوريين يجمعون على أن استمرار ثورتهم بهذه الصورة البطولية هو الأساس، وأن ما تقدمه من أثمان باهظة من الضحايا والجرحى والمعتقلين، سوف يزيد بشكل كبير مساحات التعاطف الإنساني والأخلاقي معهم، ويزيد تاليا إحراج السياسات الرسمية ودفعها للتلاقي على هم واحد هو رفض استمرار ما يحصل والبحث عن مخارج عاجلة من هذا الوضع المأساوي.